24-سبتمبر-2017

تنظيف ميدان التحرير خلال الثورة المصرية

كنت في السادسة تقريبًا، خلال السنة التي قضيتها في الإسكندرية، إبان الغزو العراقي للكويت عام 1990. كانت المدرسة تبعد مسيرة رصيف ونصف الرصيف من البيت. لم أكن أفهم وقتها أن المنامات المصنوعة من قماش "الكستور" الأبيض المزركشة كانت بديلًا عما تركناه بحسن نية في شقتنا الصغيرة بالكويت، التي فُتحت وسُرق منها كل شيء حتى لعبنا.

كان المجال العام الذي تم تجريمه الآن هو محل إثبات الوطنية

ذات يوم قررت ناظرة المدرسة التي كان بعض الفتية الأشقياء يلقبونها بـ"الراقصة" أن توقف أطفالًا صغارًا أمام العلم ساعة رافعين أيديهم إلى الأعلى عقابًا على تحيتهم "الهزيلة" للعلم. أتذكر كيف كنا جياعًا لم نأكل فطورنا بعد، وأتذكر مرور "الراقصة" على طابور الصغار منا لتتأكد من رفعهم أذرعهم مشدودة إلى أعلى، كي يتعبوا وينالوا ما يستحقون.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. السلطة تواصل مصادرة المجال العام

أتذكر هذا كله وأنا أقرأ قرار وزير التعليم العالي خالد عبد الغفار بإقرار تحية العلم في جميع الجامعات المصرية، في أول يوم دراسي في الجامعة، إذ قال في سياق تبريره لهذا القرار "الهدف من  تحية العلم بالجامعات المصرية هو خلق روح الانتماء للوطن".

هي جريمة أخرى متصلة على طول الخط مع الجريمة التي كانت ترتكبها "الراقصة"، أو ناظرة المدرسة التي كنت أذهب إليها وأنا طفلة بين الأطفال الصغار الجوعى والكبار المتمردين، في مدرسة أرضها ترابية بلا إسفلت، وحمامات غير نظيفة، وأسلوب غير تربوي في الفصول، وكم ضخم من المعلومات يُحشر حشرًا في رأس طفلة مثلي.

حين أخرج للعالم الكبير، كنت أرى الفقراء في الطرقات، خاصة حين نهبط وسط البلد لنشتري الأحذية الخاصة بالمدارس. صوت الشحاذ، كان يُفقد طفلة مثلي في السادسة شعورها بالأمان، وشكله الغريب كان يفزعني، خاصة ذلك الذي تخرب وجهه تمامًا فلم يعد يملك أنفًا ولا عينين.

حين كبرت كان المجال العام، الذي تم تجريمه تمامًا الآن، هو محل إثبات الوطنية، العمل هو الوطنية، إلقاء القمامة في سلة المهملات نوع من الوطنية، حتى منعت شركات النظافة الزبالين من المرور على البيوت في منتصف التسعينات فامتلأت شوارع الإسكندرية بالقمامة على طول الطرقات، وبات رمي القمامة في الشوارع أمرًا عاديًا ومألوفًا لدى الناس.

كبرتُ قليلًا وسألت نفسي: أليست الوطنية في أبسط صورها هو ما كان يفعله الشباب من تلقاء أنفسهم بعد ثورة الخامس والعشرين؟ حين كانوا يخرجون إلى الشوارع ينظفونها ويطلون الأرصفة، ويرفعون الأعلام، ويطلقون مبادرات جادة كتلك التي أطلقتها آية حجازي من أجل تنظيف الطرقات ورعاية أطفال الشوارع؟

تسليع الوطنية أوتحويلها إلى ورقة ضغط لعبة قديمة تم استيرادها من أنظمة آل سعود وآل نهيان

كان حبس آية حجازي ورفاقها ومثيلاتها من الفتيات والشبان الذين امتلأت بهم السجون بمثابة تحذير شديد اللهجة، بأن الاهتمام بالشأن العام لم يعد للعامة، وأن له شروطًا، أهمها أن تكون من المرضي عنهم.

اقرأ/ي أيضًا: الإعدام سجنًا في مصر.. ما خفي أعظم!

تسليع الوطنية أوتحويلها إلى ورقة ضغط كانت لعبة قديمة تم استيرادها من أنظمة آل سعود وآل نهيان وآل مكتوم. الوطنية هي ألا تقوم بفعل يمسّ بالأمن القومي، فكرت لحظات من الذي مس الأمن القومي؟ نحن أم هم؟ الناس في الشوارع الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، أم الذين باعوا ويبيعون ويستفيدون من مقدرات هذه الأرض، باسم الحماية والرعاية، والصون من المؤامرات الخارجية؟

الجنسية في نظري هي أحد تمثلات الدولة القومية البغيضة، وفقها تعترف أنظمة الدول ببعض حقوق الإنسان، وبدونها يصبح الإنسان بلا هوية في انتظار أن يرخي عليه الزمان بها. هي لعنات سابغات علينا وأسلاك شائكة ومنافع لسماسرة الاغتراب، وأصحاب السعادة وسياط يضربنا به زبانية الأمر والنهي، وأحلام تدرب خيالنا على مطاردتها. على أن الجوع والغربة قد لا يكونان بسبب الجنسية فقط، قد تموت لأنك لا تعجبهم فقط كما حدث لحلا بركات وأمها.

الوطنية لا تعني تحية العلم، ولا بالضرورة هي الجنسية، وربما هي أيضًا ليست البلاد وحدودها، الوطنية هي أن تعيش حرًّا، يحميك القانون وليس رضا السلطان أو القبيلة أو الطائفة، ولا الصدفة الجغرافية!

 

اقرأ/ي أيضًا:

هؤلاء قتلة عروبة بركات وابنتها

مصر التي بناها الصنايعية