09-يونيو-2020

جو بايدن في ديلاوير (جيم واتسون/أ.ف.ب/Getty)

مما ساد عبر قوة حضور العرف والتواطؤ شبه المعلن داخل مجلس الشيوخ للجمهورية الرومانية، أي روما الإمبراطورية العسكرية قبل أن تكون الإمبراطورية الرومانية الغربية بنسختها الميلادية الأولى، أن أحد الأعمدة الاستراتيجية العسكرية في شن حروب روما الجمهورية وغزواتها  يعطي الأحقية لمن يجهز الفيالق المقاتلة لوجستيًا من ماله، بالحبوب والنبيذ وقبلها السيوف والدروع، أن يضطلع بقيادة الحملة، أو أقله اختيار القائد ونوابه. من أبرز أمثلة هذا العرف ما مُنح لـماركوس ليسينيوس كراسوس في حملاته الكثيرة على جيش سبارتاكوس وما تلاها في حملاته السورية تجاه شرق المتوسط، إذ بقي يلقب بإمبراطور فيالق روما حتى مقتله في معركة حران ذائعة السيط. أكثر ما يستحضر روما اليوم، ببروتوكولات مجلس شيوخها ودساتيره المتراكمة، أن مراجعة سريعة للعبقرية السياسية التي أسست لنص الدستور الأمريكي كفيلة بتبيان مدى تأثر آباء الولايات المتحدة المؤسسين بروما الجمهورية، في المبادئ المؤسسة وفي الشكليات المراسمية، أقل تبرير لهذا الادعاء القواعد الناظمة المبكرة لحق التصويت في الدستور الأمريكي، التي ليست إلا قوانين التصويت الرومانية بحرفيتها كما بإقصائها النساء والعبيد وكل من لا يتحصلون على ملكية عقارية واستثمارات غير مديونة. لكن مستويات التأثر الرومانية أو بروما لم تحضر أمريكيًا فيما يتعلق بالدستور فقط، بل أن العقيدة العسكرية كما الثقل القيمي الذي لها يخضع لادعاء الأثر الروماني، تمامًا كما هي ممكنات العمل السياسي المؤسسي في الولايات المتحدة الأمريكية بما هو مُخضع، رغم كل الاستعراض الديمقراطي، لمال وقوة جماعات الضغط والمناصرة السياسية، أي المتعارف عليها اصطلاحًا باللوبيات.

يتوفر جو بايدن على ممكنات واسعة تدعم إمكانية تجاوزه لدونالد ترامب في السباق الرئاسي الحالي يشكل ترامب، أو فشله المؤسسي، إحداها للمناسبة. كما تتعلق هذه الممكنات بالممارسة السياسية وصناعة السياسات بحكم الخبرة التي لديه ولدى فريقه وتحالفاتهما العابرة للاصطفافات الإعلامية والحزبية

يُقدم في هذه الأيام الجنرال الأمريكي جو بايدن (1942) على خوض السباق الرئاسي الأمريكي المقبل، رسميًا، في مقابل ترشيح الرئيس الحالي دونالد ترامب، في انتخابات مرتقبة قد تحمل الكثير من القفزات، غير الشكلية فقط في هذه الجولة الانتخابية الأمريكية. لكن مع قراءة بواكير الخرائط التي لحركات جو بايدن ونقلاته المواقعية تنتفي إمكانية القول بأنه مرشح الحزب الديمقراطي فقط وإن تمت  تسميته عن الحزب المعني. ما يجعل بدوره من فرص السيناتور والجنرال، وصاحب مناصب سابقة أخرى كثيرة شغلها عراب حرب البلقان 1994-1995 ومفاعيلها التي لم تغلق قبل سنة 1999 وغزو العراق رفقة الجنرال الجمهوري كولن باول بعدها بـ3 سنوات كما شيخ طريقة محاربة الجريمة المنظمة بجريمة أكثر تنظيمًا وقت خدمته العدلية الفدرالية، تحظى بمجال واسع من الممكنات والتأويلات.

اقرا/ي أيضًا: تاريخ من التقلبات والمواقف المثيرة للجدل.. من هو جو بايدن؟

يتحرك جو بايدن في مسعاه الانتخابي وسط تحقيق نتائج توفر مادة إعلامية نضرة، لكن غير مفاجئة. فقدان عنصر المفاجئة فيما يفعله ويحققه يأتي مستندًا للتاريخ الطويل والمعلن لبايدن في الوظائف السياسية الأمريكية والمواقع الاستراتيجية التي نشط فيها كما شبكة مصالحه وتحالفاته الواضحة. على العكس من دونالد ترامب بداية ترشحه وعمليته السياسية من موقعه كرجل مال وأعمال غير ذي صلة بالعمل السياسي، أقله رسميًا. فبايدن خدم في مجلس الشيوخ طويلًا، كما عمل في لجنة العلاقات الخارجية، كما كان السيناتور المتوج بأستاذية بنجامين فرانكلين في الممارسة الرئاسية، وهو صاحب ملف الانسحاب العسكري من العراق وتقليل التكاليف مع الحفاظ على المكتسبات بتغيير شكل التواجد العسكري وتحويره (راجع/ي مراسلات بايدن بخصوص تغيير شكل حرب واشنطن في العراق).

بذكر الغزو الأمريكي للعراق، والمرشح الديمقراطي بايدن صاحب باع أساسي فيه وفي مساره، يتم استدعاء خطوة شريكه الجمهوري الجنرال كولن باول، الذي أعلن العداء الانتخابي أخيرًا مع ترامب بخطاب متودد وصريح تجاه الوفاق الدائم الذي يجمعه مع بايدن. لكن الصقر الجمهوري كولن باول ليس وحيدًا في هذا المسعى، بل يقف من خلفه أكثر من دزينة من جنرالات المارينز وسلاح الجو ومجتمع الاستخبارات الأمريكية ممن أقدموا على إعلانات شبيهة أو إبداء إشارات غير خادعة بشأن دعم بايدن، رفقة غيرهم من أصحاب الثقل الاستخباري والعسكري كما القرار السياسي ممن وإن لم يعلنوا دعم بايدن، لكنهم انكفئوا عن تقديم الدعم لترشيح دونالد ترامب.

يشكل فشل ترامب في تلبية المساعي الجمهورية، وهي ذاتها التي للمؤسسة السياسية الأمريكية دوليًا، أحد دواعي الإشارات الجمهورية التي لا يستهان بها بشأن الموقف من استمرارية ترامب، وهو موقف مستجد ولم يحضر إلا بعد انقضاء موجات محاولات العزل التي قدمها بعض الديمقراطيون من الكونغرس. كما تبلور مثل هذا الموقف ليقول عن ممكنات إقصاء ترامب بعوامل الفشل الذاتي في التزام استراتيجية داعميه وليس بضغط المنافسين والخصوم بالضرورة. أبرز ساحات الفشل بالنسبة لدونالد ترامب، الذي وصف مبكرًا حتى من بعض الأوساط الجمهورية بالمرشح الروسي لتصبح التوصيفات مؤخرًا أكثر دقة بالانتقال لوصفه بالمرشح الصيني في الانتخابات الأمريكية، تأتي حروب ترامب الإعلامية مع الصين في ظل تراكم القناعة الجمهورية أن مرشحهم قد لف الحبل على عنق اقتصاد بلادهم بقفزاته غير المتوازنة سواء في حرب الشرائح المحوسبة مع الصين أو مع الجولات التي كسبتها الصين مؤسسيًا ضمن مجال ممارسة الهيمنة والنفوذ عبر منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها التابعة منذ بداية جائحة كوفيد 19 وبجهود دونالد ترامب أكثر من أي طرف آخر. في الوقت الذي تعبر فيه الصين عن موقع أكبر سوق مستهلك لبضاعة كبرى الشركات الأمريكية، جنرال موتورز مثلًا، كما هي المنافس الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية على الموارد عالميًا، خاصة الأحفورية، وهي أيضًا منافس أساسي في السوق العالمي كما الأمريكي وبحضورها مصنعًا لبضائع العلامات التجارية الأمريكية، لا يقدم ترامب أمام كل هذا سوى موجة أمست مكررة وغير تجديدية من الأداء الاستعراضي الإعلامي، وهذا كما يبدو من بين المدرك لدى بايدن، لكن الأهم لدى ما يمكن تسميته معسكر كولن باول رفقة المؤسسة العسكرية/الاستخبارية والتشريعية في واشنطن.

يمكن القول بشأن علاقة جو بايدن بإسرائيل ولوبياتها أنها موسومة بأقل الممكن إعلاميًا وأقصاه واقعيًا

تتعاظم فرص جو بايدن أمام دونالد ترامب في ظل التجاذبات القائمة في الشارع الأمريكي اليوم، ضمن موجة الاحتجاجات العارمة والعابرة في آن. إذ قد لا تكون استطلاعات الرأي مصدرًا يمكن الارتكاز لما يقدمه موضوعيًا، هذا لو تم التسليم بعملية وموضوعية "علم" الاستطلاعات من أساسه. لكن بالأخذ بعين الاعتبار أن الظرف القائم والاستطلاعات الدائرة هي على بعد شهور قليلة من الانتخابات الأمريكية يحضر ما يستحق الذكر بشأن التقدم الملحوظ الذي سجله جو بايدن على منافسه في السباق الانتخابي. إذ تقدم عليه بحاصل 7 نقاط في استطلاع وول ستريت جورنال وشبكة إن بي سي، وبنسبة مقاربة في استطلاع وارنر بروس أو سي إن إن للدقة. كما يبدو بايدن ناظرًا للوضع القائم حاليًا في بلاده، خصوصًا أزمة كوفيد 19 بما فيها من إدارة ظهر عن تقديم اللازم، وهي ملموسة لدى الشارع الأمريكي بعين الخبير في المؤسسة السياسية، أو ما يمكن تسميته ماكينة الدولة، من موقع الممارس السياسي والمحامي الضليع دستوريًا، عوضًا عن براعته البادية في توظيف الحنين النخبوي لخطاب الصوابية  السياسية الذي كان للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وحتى ميشيل أوباما التي لم يغب عن بايدن إعلان رغبته بنيابتها له، كما توظيف كلمات ترامب وخطواته ضد برامج أوباما الصحية التي قلب ترامب بمعاداتها الكثير من الآراء ضده دون أن يحصد من الأثر أكثر من إساءات إعلامية لحقبة سلفه. يضاف إلى ذلك أن بايدن أبرع بكثير من ترامب في التعاطي والرد على الفضائحية السياسية وحتى الجنسية التي له، إذ لا يقل حضوره في عالم مثل هذه الفضائح عن دونالد ترامب بمكان إلا أن لهجته وخطابه بشأنها يختلفان بما لا يقارن بدونالد ترامب. إذ على سبيل ضرب المثال، ندر ذكر مؤسس موقع ويكيليكس على لسان جو بايدن، في حين يمكن اعتبار ترامب من بين أكثر من رددوا الاسم إعلاميًا، دون أن يكون لترامب دور كبير فيما واجهه وما زال جوليان آسانج، بينما شح ذكر ذات الاسم على لسان جو بايدن، في ذات الوقت الذي يمكن اعتبار بايدن فيه أحد أهم مهندسي التنكيل بآسانج، أقله وفق مراسلاته وخططه المسربة، بل وتوجيهاته بضرورة مواجهة "إرهاب" جوليان آسانج وموقع ويكيليكس (راجع/ي كابل مراسلات جو بايدن بهذا الخصوص).

اقرا/ي أيضًا: تحليل إخباري: طالبان بقوة دفع الواقع.. جسر برؤوس كثيرة

تبقى المرساة المعول على إشاراتها في السباقات الانتخابية الأمريكية رهينة حرب ممكنات من يدعم من؟ وبأي مال ولأجل أي مشروع؟ كل هذا ضمن استراتيجية واحدة موحدة لا خلاف عليها سواء هل تأتي مدسترة أم بقفزات بعيدة عن الدستور برمته. إنما يحضر الخلاف عندما تتوفر تهديدات من أي مستوى على الهيمنة الاستراتيجية التي لواشنطن دوليًا، تمامًا كما الهبوط المتدرج لأسهم دونالد ترامب خلال الأسابيع الأخيرة. لتقول مثل هذه السياقات الكثير بشأن الشبكة المصلحية الحاضرة بضرورات الواقع، بتخطيط مسبق ودونه، بعيدًا عن حديث المؤامرة ونظرياتها، لكن بإقرار ضروري لما يمكن تسميته النسخة الأمريكية من الدولة العميقة.

عودة لقوة المال في تنصيب ماركوس ليسينيوس كراسوس إمبراطورًا لجيش روما الجمهوري، يحضر استدعاء عالم الضغط والمناصرة، اللوبينغ، ليس فقط في صياغة السياسات أو الصفقات أمريكيًا، بل الشخوص والمسميات بذات الوزن. إذ يعد من القانوني أمريكيًا، بل والدستوري ضمن الحق المكفول بحرية التعبير وفق التعديل الأول، توظيف المال لاستئجار أصحاب خبرة وعلاقات من محاميين ومشرعين لتقديم ملف أو قضية ما ودفعها في الكونغرس الأمريكي لصياغة تشريعات تخدمها. هذا على الرغم من إشكالية الفكرة المجردة، وما تستتبعه من ابتزاز ورشاوى وشراء ذمم (راجع/ي الدليل المتخصص بالضغط والمناصرة أمريكيًا). قوة المال ذاتها والضغط المتوالد عنها من شأنها قول الكثير بخصوص أفق مشروع ترشيح جو بايدن. خاصة وأن بايدن نفسه صاحب رؤية استراتيجية في هذا المضمار. كما أنه سعى باستمرار لتحوير هذه الإمكانية لتبقى مستمرة، لكن كأداة أمريكية – أمريكية، بعيدًا عن متناول الدول والكارتلات المالية الخارجية. على العكس تمامًا من منافسه دونالد ترامب، الذي لم يرى في موضوع الضغط والمناصرة إلا وضعًا قائمًا ليستفاد مما يوفره دون محاولة التغيير فيه (راجع/ي تعديلات دليل قانون تسجيل الوكلاء الأجانب لوزارة العدل الأمريكية 1938 - فارا، بقلم بايدن وفريقه).

لا يتوقف دور جو بايدن عند المجهودات التشريعية السابقة بشأن قوننة عمل جماعات الضغط أو تقديم رؤية لكيفية عملها والتعاطي معها. بل يظهر لبايدن الكثير من الأدوار والعلاقات المتنوعة مع هذا العالم. فالممارس الشهير لسياسات الضغط والمناصرة ستيورات إيزنتات، خاصة في حقل التسليح لأطراف خارجية وتجارة السلاح ما فوق المتوسط، ما هو إلا أحد مستشاري جو بايدن المعاصرين. وهو نفسه، أي إيزنتات، شغل منصب مستشار سابقًا لكل من جيمي كارتر وبيل كلينتون، كما تدين له كل من عملاق صناعة الآليات الحربية كاتربيلر، وشركة بلاك ووتر للارتزاق الحربي بتشريع صفقاتهما الدولية المؤسسة وتبييض حواصلها المالية. إضافة إلى هذا الوزن يعد إيزنتات من أبرز الشخصيات التي لا خلاف عليها لدى لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية – أيباك. ما من شأنه توفير الكثير من الأريحية لمسعى جو بايدن الانتخابي، بشكل خاص بعد استنفاذ الطاقة الإعلامية، للمشروع الإعلامي الذي أطلق عليه "صفقة القرن" والذي عول عليه ترامب كثيرًا، غير مدرك بالضرورة لفرق التوقيت الانتخابي لديه ولدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكن بايدن لا يضع كل خياراته في سلة قطاع واحد من جماعات الضغط كما جرت عادته، إذ لا يبدو أنه يعتمد اعتمادًا مطلقًا وكاملًا على قطاع الإنتاج الحربي، ولا على العلاقة بجماعات الضغط التي لإسرائيل في الولايات المتحدة. وإن كان صاحب رؤية مفيدة وغير إعلامية بقدر ما هي فاعلة واقعيًا لصالح إسرائيل. بما يجعل من عدم دعمه من بين خيارات إسرائيل الضارة لمصلحتها (راجع/ي كابل مراسلات بايدن –كلينتون-إيزنتات المسربة بشأن خطورة مقاطعة إسرائيل دوليًا الواقعية بعيدًا عن تهمة معاداة السامية الدعائية). إنما يتجاوز بايدن وفريقه كل ذلك بعلاقة متميزة وممتدة مع شركات الطاقة والنفط، من نوع نوبل إنيرجي وإكسون موبيل، وحتى بريتش بتروليوم التي استفادت من العقوبات الأمريكية على إيران أكثر من غيرها. وما زال الكثير في جعبة فريق بايدن بشأن ضمان جماعات الضغط، من عالم صناعة العقاقير والأدوية كما عالم الإعلام بعملاقيه وارنر بروس ووالت ديزني.

ختامًا، يتوفر مهندس حرب درونز أوباما الذي استعمل الطائرات غير المأهولة بغرض القتل أكثر من أي رئيس أمريكي آخر وبـ10 أضعاف مما استخدمها سلفه جورج دبليو بوش، على ممكنات واسعة تدعم إمكانية تجاوزه لدونالد ترامب في السباق الرئاسي الحالي يشكل ترامب، أو فشله المؤسسي، إحداها للمناسبة. تتعلق هذه الممكنات بالممارسة السياسية كما صناعة السياسات بحكم الخبرة التي لديه ولدى فريقه وتحالفاتهما العابرة للاصطفافات الإعلامية والحزبية، كل هذا إلى جانب ممكنات خطابية لا يعوزها من الشعبوية شيء، لكن استخدامها لديه لا يحضر إلا في المناسبات اللازمة، كسطوه على شعار حملة بيرني ساندرز الانتخابي لدى تصاعد موجة التظاهرات في أعقاب اغتيال جورج فلويد. كما أن بايدن يحضر في ساحة تناول الاستراتيجية الأمريكية دوليًا بكامل الإخلاص لإمبرياليتها الناجعة غير الجغرافية معتمدًا على قوة الفواعل التي في الاقتصاد الأمريكي أكثر من السطو على البترودولار غير الأمريكي على خلاف منافسه.

 

اقرا/ي أيضًا: 

مسؤول إسرائيلي يزور القاهرة سرًا لبحث ضم الضفة الغربية

موسكو توسع نفوذها في سوريا.. هل بدأ تفعيل البند التاسع من الاتفاقية مع الأسد؟