بعد سقوط نظام الأسد، اتخذت الإدارة الجديدة قرارات اقتصادية مختلفة، كان من أبرزها تحرير بيع الخبز وأسعاره وهي المادة التي كانت مدعمة لعقود.
كانت العائلات في سوريا تعتمد على "البطاقة الذكية" التي جعلت لكل واحدة منها مخصصات محددة للحصول على الخبز، وهذه المخصصات لم تكن كافية في أغلب الأحيان، ومع صدور قرار "تحرير الخبز"، ارتفعت أسعار الخبز من جهة، لكن الطلب زاد على المادة من جهة أخرى، مما انعكس بشكل مباشر على ظروف عمل عمال الأفران. وبينما أصبحت المادة متوفرة بشكل أكبر للأسر، وجد عمال الأفران أنفسهم يواجهون ساعات عمل طويلة وأجورًا متدنية لا تتناسب مع الجهد المبذول.
تداعيات "تحرير الخبز"
أدى تحرير بيع الخبز في سوريا إلى زيادة الطلب على المادة مما دفع الأفران لمضاعفة ساعات العمل لتلبية الاحتياجات، يشارك العم أبو ياسين (55 عامًا) من ريف حمص قصته مع "الترا صوت"، وهو عامل في فرن قريب من قريته، ويقول إنه رغم تحرير أسعار الخبز وتضاعفها من 400 لتصل إلى 4000 ليرة سورية، فإن الطلب على الخبز قد تضاعف.
"تحرير الخبز" في سوريا أدى إلى توفر المادة بشكل متزايد، لكنه ألقى بظلاله على عمال الأفران الذين يعانون من ظروف عمل قاسية وأجور قليلة
ويضيف العم أبو ياسين في حديثه لـ"الترا صوت": "في الفترة الأخيرة من عهد النظام السابق كنا نعجن حوالي 15 عجنة في اليوم، أما الآن نعجن ما لا يقل عن 24، وأحيانًا يصل الأمر لأن نعجن ما يزيد عن الثلاثين" ويشير أبو ياسين أن عدد "العجنات" مرتبط بكمية الطلبات المرسلة للفرن.
ويعاني عمال الفرن من ازدياد ساعات العمل لدرجة تفوق طاقاتهم، خصوصًا أن البعض منهم مجبر على العمل بحكم الواقع المعيشي الصعب، رغم وجود مشاكل صحية لديه، يقول العم أبو محمد (58 عامًا)، وهو عامل من ريف طرطوس تقاعد من وظيفته الحكومية، إنه قبل تحرير الخبز كان يعمل حوالي 7 ساعات على الأكثر، أما الآن فيعمل ما بين 12 إلى 14 ساعة.
انخفاض الأجور مقارنة بالجهد
يؤكد العديد من عمال الأفران أن الراتب غير كاف، فهو لا يتجاوز 800 ألف أي ما يقارب 65 دولار أمريكي، لكن الظروف تجبرهم على العمل، ويشير خبراء محليون أن الراتب لا يغطي سوى 40 بالمئة من احتياجات المعيشة.
يؤكد العديد من عمال الأفران لـ"الترا صوت" أن الراتب غير كاف، فهو لا يتجاوز 800 ألف أي ما يقارب 65 دولار أمريكي، لكن الظروف تجبرهم على العمل
ويوضح سامر (50 عامًا) وهو مالك فرن في ريف طرطوس موضوع رواتب العمال، وقال سامر لـ"الترا صوت": " هذا صحيح، لقد تحرر سعر الخبز، لكن بالمقابل تحرر سعر الطحين وتضاعف بنحو ثلاثة أضعاف، وتضاعف سعر الوقود، مما يجعل زيادة رواتب العمال أمرًا ليس بالهين أبدًا، ويجب على أي زيادة أن تكون مدروسة جيدًا".
ويضيف مالك الفرن: "لكن هذا لا يعني أننا لم نقم بزيادة الرواتب، بل زدناها من 600 إلى 900 ألف"، لكنه يؤكد أن الأجور لا تزال زهيدة مقابل التعب وساعات العمل الطويلة، مبيّنًا أن سبب زيادة ساعات العمل هو أن الأسر سابقًا كانت تعاني من عدم كفاية المخصصات من الخبز، أما الآن فالكمية مفتوحة، ويشير سامر إلى أن الطلب زاد على الخبز بنسبة تتراوح من 50% إلى 60%.
صعوبات نفسية للعمال
"الذي يزيد الأمر تعقيدًا أن العمل في الأفران ليلي، مما يسبب إرهاقًا وتعبًا غير محمول، لكنني مجبر على العمل، خصوصًا مع تأخر قبض رواتب الوظائف الحكومية". هكذا يروي العم أبو أحمد (54 عامًا) من ريف حمص معاناته لموقع "الترا صوت"، ويضيف أن ذهابه للفرن كل يوم في الليل يجعله دائمًا في حالة قلق، فهو يذهب على "الموتور" في الليل، والطريق غير آمن، وفقه.
الأمر ذاته يشاطره أبو ياسر (48) عامًا، العامل في أحد أفران ريف اللاذقية الذي قال لـ"الترا صوت" إنه "من شدة التعب والإرهاق الذي وصلت إليه بسبب قلة النوم والوقوف الطويل، قد نمت وأنا أقود دراجتي في القرية، نمت لمدة لحظة واحدة لأستيقظ بعدها وأنا طريح على الأرض، ليأتي شباب القرية ويسعفوني إلى المشفى، والحمد لله اقتصر الأمر على بعض الرضوض وتشعير في أحد أضلع الصدر". ويضيف أن هذه الحادثة أدخلته في حالة اكتئاب ومنعته من العمل بعدها في الفرن، وهو الآن في المنزل يدبر أموره بمساعدة من الأقارب و"أصحاب الأيادي البيضاء" على حد وصفه.
أمراض مزمنة مرتبطة بالمهنة
الأمراض التنفسية تعد من الأمراض المهنية التي تصيب عمال الأفران، فأكد خبراء وباحثون أن غبار الطحين يساهم بشكل كبير في إصابة الجهاز التنفسي بأمراض مزمنة، أبرزها الربو، مما يجعل وضع العامل أسوأ، بالإضافة لما يعانيه من آلام في الظهر والأطراف العلوية نتيجة العجن والوقوف الطويل، ففي دراسة نشرت في عام 2014 قام باحثون فرنسيون بدراسة تضمنت 330 حالة من مرضى الربو في فرنسا، تبين أن 20% منهم كان سببه غبار الطحين الذي يتعرض له عمال الأفران، ووجدت دراسة مماثلة في بولندا شملت 393 عاملًا بالأفران، أن حوالي 44.5 % منهم لديه "ربو مهني".
أبو محمد، أحد عمال الأفران لـ"الترا صوت": العمل بالأفران سبب لي ضيق تنفس ونوبات اختناق، وقد تم تشخيصي من قبل الأطباء بأني مصاب بالربو المهني، مما يجعل العمل أكثر صعوبة
وفي هذا الصدد يقول أبو محمد، وهو أحد عمال الأفران إن العمل بالأفران سبب له ضيق تنفس ونوبات اختناق، وقد تم تشخيصه من قبل الأطباء بأنه مصاب بالربو المهني، مما يجعل العمل أكثر صعوبة، ويشير أبو محمد في حديثه لـ"الترا صوت" أن وضع الكمامة أصبح غير مجد في الفترة الأخيرة، وأن ظروف العمل أصبحت غير إنسانية، ويؤكد عدم وجود أي عقود عمل رسمية وأي تأمين صحي أو تعويض طبيعة عمل، مما ينذر بنهاية وخيمة لعمال الأفران.
"تحرير الخبز" أدى إلى توفر المادة بشكل متزايد، لكنه ألقى بظلاله على عمال الأفران الذين يعانون من ظروف عمل قاسية وأجور قليلة. هذه التحديات تتطلب حلولًا عاجلة لتحسين أوضاع العمال وضمان استدامة الإنتاج، حيث لا بد من الإدارة الجديدة أن تقوم بسن قوانين تحدد ساعات وظروف عمل ملائمة تحفظ فيها للعامل صحته الجسدية والنفسية، ولا بد من توفر تأمين صحي يضمن للعامل القدرة على معالجة الأمراض المهنية.