فرضت الأحداث التي شهدتها مدينة النجيلة بمحافظة مرسى مطروح (شمال مصر) خلال الأيام القليلة الماضية، نفسها على منصات التواصل الاجتماعي، حيث سحبت البساط من تحت القضايا التي تشغل الرأي العام المصري، وذلك جراء الصدام الذي نشب بين عدد من العائلات والقبائل مع قوات الشرطة، في أعقاب تبادل الاتهامات بين الطرفين حول مقتل 5 أفراد، 3 من عناصر الأمن، وشابين من أبناء مطروح، وسط تحذيرات من خروج الوضع عن السيطرة.
تعود بداية الأحداث إلى التاسع من نيسان/أبريل الجاري، حين اقتحمت قوة من الشرطة منزل أحد المطلوبين للعدالة، والصادر بحقه حكم غيابي بالسجن المؤبد بتهمة الاتجار في المواد المخدرة. وقد اندلعت اشتباكات مسلحة بين القوة الأمنية والمطلوب، تبادلا خلالها إطلاق النار، ما أسفر عن مقتل ثلاثة من أفراد الشرطة وإصابة اثنين آخرين، بينما تمكّن المحكوم عليه من الفرار.
تعود بداية الأحداث إلى التاسع من نيسان/أبريل الجاري، حين اقتحمت قوة من الشرطة منزل أحد المطلوبين للعدالة، والصادر بحقه حكم غيابي بالسجن المؤبد بتهمة الاتجار في المواد المخدرة
وخلال الأيام الأربعة التالية، شهدت منطقة النجيلة ومحيطها حالة من التوتر الأمني والإعلامي، خاصة بعد أن اتهمت قبائل مطروح الأجهزة الأمنية باحتجاز عدد من النساء من عائلة المطلوب الهارب واستجوابهن داخل مركز الشرطة. وقد أثارت هذه الخطوة استياءً واسعًا في الأوساط القبلية، واعتُبرت تصرفًا مرفوضًا وإهانة غير مقبولة.
وفي تطور خطير، قُتل شابان من العائلة نفسها، ما أجّج التوتر أكثر، ودفع بالأوضاع إلى مسار بالغ التعقيد، ينذر بمواجهة مفتوحة بين الطرفين.
بلغ التصعيد ذروته واتخذ منحًى جديدًا حين أعلن مجلس عُمد ومشايخ قبائل محافظة مطروح وقف التعامل وتعليق جميع أشكال التعاون مع أجهزة الشرطة في المحافظة، مؤكدًا اقتصار التنسيق على الجيش وأجهزته الاستخباراتية فقط، وذلك إلى حين الانتهاء الكامل من التحقيقات الجارية بشأن الأحداث الأخيرة. وطالب المجلس الرئيس المصري بالتدخل العاجل، في خطوة اعتبرها البعض جرس إنذار يستوجب التحرك قبل أن يخرج الوضع عن السيطرة. فماذا جرى في النجيلة؟
رواية الأهالي: تجاوز شرطي غير مقبول
يقول الأهالي إن معلومة وصلت إلى قسم شرطة النجيلة تفيد بتخفي فايز عميرة، المحكوم عليه بالسجن المؤبد غيابيًا بتهمة الاتجار في المخدرات، داخل منزل ابن عمه، حميد عميرة. وعلى الفور، تحركت قوة من القسم مكوّنة من ضابط وخمسة أمناء شرطة وعدد من المجندين، على متن سيارة شرطة متجهة إلى المنزل المذكور.
وعند اقتحام المنزل بالقوة، اندلع تبادل لإطلاق النار بين القوة الأمنية والمتهم وعدد من الأفراد المسلحين، ما دفع الضابط إلى الفرار، بينما قُتل ثلاثة من أمناء الشرطة؛ الأول، عمر المصري، قُتل على الفور، والثاني، محمد حسن سلامة، توفي أثناء نقله بسيارة الإسعاف، أما الثالث، كريم محمد خليفة، فتوفي متأثرًا بجراحه بعد خروجه من غرفة العمليات. فيما يتلقى اثنان آخران من الأمناء العلاج وهما محمد الرويني وإبراهيم الشاعر.
عقب الواقعة، فرّ المتهم إلى الحدود الليبية، وفشلت القوة الإضافية التي دفعت بها مديرية الأمن في العثور عليه. وفي محاولة للضغط على المطلوبين لتسليم أنفسهم، ألقت القوات القبض على 24 سيدة من عائلة عميرة، من بينهن زوجة ابن عم المتهم الهارب، واحتجزتهن قسرًا دون توجيه أي اتهامات لهن.
ونظرًا لحساسية مسألة احتجاز النساء في مطروح، حيث يُعدّ ذلك "عارًا" وخروجًا على الأعراف القبلية، وتحت ضغط شعبي وقانوني من الأهالي والمحامين، اضطرت السلطات للإفراج عن 19 سيدة، فيما بقيت أربع سيدات رهن الاحتجاز، ما أثار استياء القبائل، ودفعها إلى اتخاذ خطوة تصعيدية تمثلت في تسليم شابين من أبنائها مقابل الإفراج عن السيدات الأربع.
في صبيحة يوم الجمعة، الحادي عشر من نيسان/أبريل الجاري، تم الاتفاق بين أحمد العُمدة في النجيلة، ويدعى حمد بولقرع الفزازي، وضباط من قسم الشرطة، على تسليم شابين من أقارب فايز وحميد عميرة، هما يوسف عيد فضل السرحاني (الأخ غير الشقيق للمتهم المطلوب فايز عميرة)، وفرج رياش الفزاري (نسيب حميد عميرة، ابن عمه)، وذلك مقابل الإفراج عن السيدات المحتجزات.
وبحسب رواية الأهالي، فقد اصطحب عدد من الضباط الشابين إلى طريق صحراوي، ثم أطلقوا النار عليهما، ليسقطا قتيلين على الفور، ما فجّر حالة من الغضب العارم في صفوف الأهالي الذين اعتبروا ما جرى عملية تصفية خارج إطار القانون تستوجب المساءلة. وأكد الأهالي أن الشابين لم يكونا متهمَين في أي قضية، ولا مسجلَين لدى قوات الأمن، بل جرى الدفع بهما كحل مؤقت لتأمين الإفراج عن السيدات، إلى حين القبض على المطلوبين الحقيقيين.
وفي اليوم التالي مباشرة، السبت الثاني عشر من نيسان/أبريل الجاري، عقد مجلس العُمد والمشايخ بكامل هيئته اجتماعًا موسعًا، بحضور جميع العُمد، والمشايخ، والعَواقل، ووجهاء محافظات مطروح، وذلك لمناقشة المستجدات التي تشهدها منطقة النجيلة. وبعد التداول والمشاورات، قرر المجلس بالإجماع اتخاذ عدد من الخطوات التصعيدية، أبرزها:
أولًا: وقف التعامل وتعليق كافة أشكال التعاون مع أجهزة الشرطة في محافظة مطروح، وعلى رأسها أقسام الشرطة، وذلك إلى حين الانتهاء الكامل من التحقيقات الجارية بشأن الأحداث الأخيرة.
ثانيًا: المطالبة بعقد لقاء عاجل مع السيد رئيس الجمهورية لتوضيح الموقف، ونقل صوت أبناء مطروح ومطالب المجلس، باعتبارهم ممثلين شرعيين عن القبائل والعائلات في المحافظة.
ثالثًا: الإدانة التامة والمطلقة لأي شكل من أشكال احتجاز النساء أو استخدامهن كرهائن في النزاعات، مع التأكيد على رفض المجلس القاطع لمثل هذه الممارسات الغريبة على أعراف وتقاليد المجتمع المحلي، والمطالبة بفتح تحقيق عاجل ومحاسبة المتورطين في أي تجاوز بهذا الشأن.
من جهته، كشف المحامي ونقيب محامي مطروح الأسبق، ممدوح راغب الدربالي، وهو أحد المحامين الموكلين عن أسر الشابين القتيلين، أنه تقدم يوم السبت، 12 نيسان/أبريل، ببلاغات رسمية إلى نيابة مطروح تشمل كافة الوقائع، بدءًا من الاحتجاز القسري للسيدات، وصولًا إلى التصفية غير القانونية للشابين.
وقد أثارت تلك الوقائع حالة من الغضب الشديد في أوساط أهالي النجيلة ومرسى مطروح عمومًا، الذين طالبوا بالقصاص العادل وتقديم المسؤولين عن الحادثة إلى محاكمات عاجلة، ليكونوا عبرة وردعًا لأي مسؤول يتجاوز القانون، ويُعلي نزعته الشخصية أو الانتقامية على واجبه والتزامه بالدستور والقانون، بحسب ما جاء على لسان العديد من الأهالي عبر منصات التواصل الاجتماعي.
رواية الشرطة.. نفي والتزام بالواجب الوطني
من جانبها، نفت وزارة الداخلية معظم ما ورد في رواية الأهالي، مؤكدة أن ما حدث لا يتعدى كونه مطاردة أمنية بين قوات الشرطة وعناصر إجرامية مطلوبة للعدالة. وأصدرت الوزارة في هذا السياق بيانين منفصلين:
البيان الأول: نفت فيه احتجاز سيدات من مطروح داخل قسم شرطة النجيلة، وجاء فيه: "ما تم ترويجه عبر عدد من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشأن قيام الأجهزة الأمنية بمديرية أمن مطروح باحتجاز سيدات على خلفية استشهاد أفراد من المديرية أثناء تنفيذهم لأحكام قضائية بحق عناصر إجرامية شديدة الخطورة، هو عارٍ تمامًا من الصحة". وأكد البيان اتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد من وصفهم بـ"مروّجي تلك المزاعم" لما اعتبره "تعمدًا لإثارة البلبلة في أوساط الرأي العام".
البيان الثاني: نفت فيه الوزارة قيام قوات الأمن بـ"تصفية" الشابين عمدًا، كما جاء في رواية الأهالي. وأوضح البيان أن أجهزة البحث الجنائي في مديرية أمن مطروح، بالتعاون مع قطاع الأمن العام، تمكنت من تحديد مكان اختباء عنصرين إجراميين شديدي الخطورة من المتورطين في واقعة استشهاد ثلاثة من أفراد الشرطة خلال تنفيذهم لأوامر قضائية ضد عنصر جنائي مطلوب في مطروح. وأضاف البيان: "عقب تقنين الإجراءات، تم استهدافهما بمشاركة قطاع الأمن المركزي، وأسفر تبادل إطلاق النيران عن مصرعهما، وعُثر بحوزتهما على بندقيتين آليتين وكمية من الذخيرة".
دعوات للتهدئة
على مدار الأيام الماضية بُذلت جهود عدة لاحتواء حالة الغضب المتصاعد بين الأهالي المصممين على القصاص العادل عبر المحاكمات العادلة، حيث عقد مجلس العوائل والشيوخ الذي يضم كبار ممثلي العائلات بمحافظة مطروح، اجتماعات بمركز النجيلة لبحث وقائع ما حدث، بوساطة نواب المحافظة وقيادات من المخابرات الحربية لمحاولة الوصول لمسار تهدئة.
كما تفاعلت مؤسسات المجتمع المدني مع تلك القضية نظرًا لما قد يترتب عليها من مخاطر بالغة في وقت لا يُسمح فيه بأي أزمة جديدة في ظل التحديات الإقليمية والداخلية التي تفرض نفسها على الساحة، حيث أعرب حزب الدستور عن قلقه البالغ إزاء ما تم تداوله من معلومات وشهادات حول الأحداث المؤسفة التي شهدتها مدينة النجيلة.
الحزب أكد في بيان له أنه إذا ما ثبت صحة ما يتم تداوله بشأن قيام قوات الأمن بـ"تصفية جسدية" للشابين بعد تسليم نفسيهما طوعًا عبر وساطة من مشايخ القبائل وعمد المنطقة، فإن هذا يُعد انتهاكًا جسيمًا لمبادئ القانون وحقوق الإنسان، وخاصة الحق في الحياة والمحاكمة العادلة، داعيًا الحكومة إلى فتح قنوات تفاهم وحوار حقيقي مع المجتمع المحلي، خاصة في المناطق المطروحة للاستثمار، لتفادي الصدامات وتكرار مثل هذه الوقائع المؤلمة، التي تؤثر سلبًا على ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
وبحسب ما نشرته صحفة "مطروح 24" المحلية، تعهد محافظ مطروح، اللواء خالد شعيب، بمحاسبة المتورطين في تلك الواقعة، مؤكدًا على متابعتها منذ البداية وأن هناك إجراءات تمت بالفعل لكن لم يتم الإعلان عنها رسميًا، مؤكدًا أن كل ذي حقّ سيأخذه بالقانون، وداعيًا إلى ضرورة فرض التهدئة، كما ناشد أعضاء مجلس العمد والمشايخ التوقف عن الكتابة أو نشر أي تفاصيل متعلقة بالحادثة عبر "فيسبوك" أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، حفاظًا على جهود التهدئة المبذولة، وتفاديًا لمزيد من الاحتقان.
حتى لا تكون سيناء جديدة
تتصاعد التحذيرات الصادرة عن حقوقيين وساسة ونشطاء من خطورة التصعيد القائم بين قبائل مطروح وقوات الشرطة، لا سيما في ظل الخصوصية التي تتميز بها هذه المحافظة الحدودية، والتي تجعل منها أرضًا خصبة لتنامي بوادر التوتر ولو كانت محدودة، إذ تُعد بيئة مهيّأة تمامًا لمثل هذه التطورات، وقادرة على تفجيرها بصورة قد تخرج عن السيطرة، استنادًا إلى عدد من المؤشرات.
المؤشر الأول يتمثل في حالة التوتر المزمن بين الأجهزة الأمنية وأهالي مطروح، نتيجة الصدامات المتكررة الناجمة عن محاولات إخلاء السكان من أراضيهم لصالح مشاريع سياحية، وعلى رأسها مشروعا رأس الحكمة وقرية جميمة. وقد شهدت تلك المناطق اشتباكات بين السكان وقوات الأمن، أعقبها لقاءات مع كبار المسؤولين في محاولة للتهدئة، إلا أن الأجواء لا تزال بعيدة عن الاستقرار.
ففي عام 2024، ومع بدء محاولات نزع أراضي سكان الجميمة لصالح مشروع "ساوث ميد جيت" التابع لمجموعة طلعت مصطفى، اندلعت اشتباكات أسفرت عن إصابة مواطن. وتكرر المشهد خلال شهر رمضان الماضي، في قرية الهشيمة، على خلفية مشروع رأس الحكمة، بحضور وزير النقل والصناعة ونائب رئيس الوزراء، كامل الوزير، وذلك أثناء محاولة الشرطة هدم 20 منزلًا لتسليم الأراضي لشركة "أبو ظبي القابضة".
المؤشر الثاني، وربما الأهم، يتعلق بطبيعة البيئة الأمنية في المحافظة، التي تُعد مسرحًا نشطًا لتجارة المخدرات والسلاح، والتهريب عبر الحدود نحو أوروبا. وغالبًا ما تسفر الملاحقات الأمنية لهذه الأنشطة عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف الأهالي، ما أسهم في ترسيخ حالة من التربص وفقدان الثقة المتبادلة بين السكان والأمن.
تتصاعد التحذيرات الصادرة عن حقوقيين وساسة ونشطاء من خطورة التصعيد القائم بين قبائل مطروح وقوات الشرطة، لا سيما في ظل الخصوصية التي تتميز بها هذه المحافظة الحدودية، والتي تجعل منها أرضًا خصبة لتنامي بوادر التوتر ولو كانت محدودة
وتُضفي الطبيعة الجغرافية لمطروح—باعتبارها محافظة حدودية ترتبط بشريط طويل مع ليبيا التي تشهد نزاعًا مسلحًا—إلى جانب تركيبتها الديموغرافية القبلية الخاصة، مزيدًا من الهشاشة الأمنية، وتزيد من احتمالية تحوّل الاحتجاجات إلى موجات عنف مستمرة. من هنا، تتزايد المخاوف من "استنساخ سيناء" جديدة في مطروح، بما يفتح الباب أمام بروز تنظيمات مسلّحة، مستفيدة من البيئة المهيأة والتوترات المتراكمة.
ويطالب المتابعون للمشهد السياسي والأمني بضرورة الاستفادة من دروس سيناء، وتجنّب الأخطاء التي وقعت فيها الدولة على مدار العقود الثلاثة الماضية، رغم التحسن النسبي في السنوات الأخيرة. فالحلول الأمنية وحدها لا تكفي، ولا يمكن لسياسة القمع أو الخطاب العنيف أن تُنهي أزمة بهذا التعقيد، بل يجب أن تكون الحلول السياسية والدبلوماسية حاضرة على طاولة أي نقاش بين الدولة، ممثلة في أجهزتها، وبين القبائل والعائلات.
مثل هذه الأحداث لا يجب أن تمر مرور الكرام، بل ينبغي أن تخضع لرقابة جادة، ومواقف حاسمة، يُحاسَب من خلالها كل من تورّط في أي انتهاك، من أي طرف كان، وأن تُرسي الدولة مبدأ العدالة للجميع، بلا استثناء ولا تفصيل على المقاس، حتى لا يفقد المواطن ثقته بها، ويتصرف خارج إطار القانون والدستور، ما يقود حتمًا إلى منزلق الفوضى.
ما يجري في النجيلة، بغض النظر عن المسؤول، يُعد اختبارًا حاسمًا لقدرة الدولة على إدارة النزاعات القبلية بعقلية احتوائية لا استعدائية، ترتكز إلى القانون وتطبيقه على الجميع دون تمييز. فالبيانات لا تكفي، والتحركات الأمنية وحدها قد تُفاقم الوضع بدل تهدئته. وحدها السياسة العقلانية، المستندة إلى القانون والدستور، يمكنها تفكيك هذا التوتر المتصاعد، قبل أن ينفجر في لحظة لا تحتمل فيها البلاد المزيد من الهزات.