19-يناير-2023
فيلم الحارة

تفتك المطحنة الأخلاقية الآن بفيلم "الحارة"، مثلما فتكت من قبل بأعمال أقلّ شأنًا؛ مثل فيلمَي "أصحاب ولا أعز" و"صالون هدى" ومسلسل "جن". والحال أن توالي هذه الحملات الأخلاقية الجائرة يثير فينا صراعًا مريرًا بين الغضب من كمية العنف التي تظهر في المجال العام على شكل سيوف إلكترونية مستعدةٍ لحزّ الرقاب من جهة، وبين العجب من القدرة الفائقة على الكذب وإيهام الناس، من قبل حرّاس الفضيلة أنفسهم، بأن فيلمًا سينمائيًّا قادر على تشكيل تهديد اجتماعي من جهة أخرى. خاصةً أنهم لا يبذلون جزءًا بسيطًا من الجهد الذي يبذلونه في محاربة الفيلم لمحاربة ما هو أولى: الفساد والفقر والجريمة، هذا إن لم تكن لهم أيدٍ خفية فيها.

لا تُرتكب الخطايا في عُرف السلطة الاجتماعية إلا بسبب الكيد والمزاجية والشيطنة.. وغيرها من الشرور التي تحترفها المرأة. لهذا لا بد من ممارسة أعلى درجات الضبط عليها حتى تتخلّص من شرها

تطحن المطحنة الأخلاقية فيلمًا جميلًا وتسيء إلى مقولاته حين تعتبر أنّ أساس المشكلة الاجتماعية عندنا هو خلل أخلاقي وحسب، والحل طبعًا سيكون بالالتزام الأخلاقي الذي سيوصلنا إلى الفوز العظيم الذي لا نعرف ما هو، لا سيما أنه يستحيل على من يدعون إليه أن يلتزموا به كونه يتجاوز طاقات البشر، ويكاد يختص بمجتمع الملائكة وحسب.

وعلى أية حال، فإنه لا علاقة لهذا المنظور بالأخلاق أبدًا، إنما هو امتداد لهيمنة التيارات المحافظة التي تعتبر كل ما يساعد الإنسان على أن يكون حرًّا وعصريًّا هو نوع من البِدَع، وأنّ كل سؤال عن العدالة شكل من أشكال العهر. وهذه تقنية سلطوية قديمة في تاريخ هذا الشرق، إذ لطالما اتُهمت النساء في أزمنة سابقة بأنهن وراء انتشار الطاعون والحروب وغلاء الأسعار. وكلما عاودت هذه التهمة الظهور مجدّدًا أصرت على إظهار الرجال كضحايا، فهم المُغرَّر بهم، منذ الخطيئة الأصلية وحتى آخر الموبقات التي يرتكبونها ويلقون بعبئها على المرأة.

لا تُرتكب الخطايا في عُرف هذه السلطة إلا بسبب الكيد والمزاجية والشيطنة.. وغيرها من الشرور التي تحترفها المرأة. لهذا لا بد من ممارسة أعلى درجات الضبط عليها حتى تتخلّص من شرها. وفي المقابل لا نجد من يقول للمهاجمين الغاضبين، المتواجدين معنا وبجوارنا، إنهم بحملات هدر الدماء والتخوين والتكفير هذه ينزعون إنسانية المجتمع، ويرمون به في قاع مظلم تحكمه العدوانية التي تفتك بالجميع.

اللافت أن دعوات المنع هذه تأتي في زمن لم تعد فيه سلطة للمنع والحجب، فلسنا في بدايات ظهور السينما أو الصحافة كي تشعر المجتمعات المحافظة بتهديد من كسر احتكارها للسلطة والمعرفة، ومن تشكيل هذه الوسائل نزعات تمردية لدى الأبناء، وبالتالي تعمل على تقنين وصولها إلى الجمهور.

العصر الذهبي للمنع انتهى فبوسع الأصغر سنًّا أن يحطم كل قيود الرقابة ويصل إلى ما يريد. ليست المشكلة مجتمعاتنا في قُبلة أو شتيمة سوقية في سياق فيلم، بل في سلب حرية الإنسان، وفي تزويج القاصرات، وإلغاء حق المرأة في جسدها، ومنع الرجل من أن يكون ضعيفًا كما يليق به كإنسان.

يفسّر ما سبق تبخّر مقولات ورسائل وجماليات فيلم "الحارة" أمام الهجوم الذي تعرّض له، ما يستدعي التساؤل حول عجز الطرف الآخر، ومنهم صنّاع الفيلم، عن تشكيل كتلة رأي راسخة تتصدى للوعظ الذي لا طائل منه. أمّا المفارقة أن فيلمًا آخر سيصدر وموجة جديدة من الغضب ستصعد، وسيتكرر السيناريو بحذافيره. طرف لا يستطيع استيعاب البعد الجمالي للنقد الثقافي والفني، ووسط ثقافي يفشل في التعامل مع العام والجماهيريّ. تعقيدات حكمت المشهد الثقافي والفني عربيًّا لسنوات، ومتاهة لا مخرج منها!