13-ديسمبر-2015

وقفة ضد جرائم الشرف في فلسطين

ثمة قتلة مزدانون بالأوسمة يولدون جراء احتكاك انتماءاتنا ببعضها البعض على ثرى هذه البقعة من الأرض المسماة بالوطن، ليعلنوا أن الحب محرم على فردين يحملان انتماءين مختلفين، ليعملوا على توسيع هوة القتل لا هامش الحب بين هذه الهويات، ينوؤون تحت ثقل انتماءاتهم وهوياتهم، ويستلونها في سادية مرعبة، كدساتير لتشريع قتل من تجاوز أحد الخطوط الحمراء.

قتلت الفتاة العاشقة بحجارة هوياتنا، تلك "الهويات" التي يجب ألَّا تمس بأي شكل

كنا ومازلنا، نحن الجماعات البشرية القاطنة في منطقة الشرق الأوسط، نُقاد فيها إلى التساؤل عن انتماءاتنا وأصولنا وعلاقاتنا مع الآخرين، وعن المكانة التي نمتلكها في الظل أو تحت الشمس. ما سوف أتحدث عنه كان أشبه بـ"تفحص هوية" تفحص لمدى ولائهم وبرائهم لها، براء لا يكون إلا بالدم، فحص لمدى استعدادهم للقتل في سبيل هوياتهم، ويا ليتنا نقوم بـ"تفحص ضمائرنا" عوضًا عن ذلك.

قبل ما يقارب العشر سنوات كنت عائدًا من مدرستي الثانوية في ظهيرة يوم تشريني مغبر كما هي عادة  أيام الفصول الانتقالية في مدينتي دير الزور شرق سوريا، وإلى جانبي في مقعد الباص أحد رفاقي في الدراسة. كنت أحسده دومًا لأنه يملك هاتفًا محمولًا يستطيع تحميل مقاطع الفيديو والموسيقى عليه، لم أكن أتوقع أن هذه الشاشة الصغيرة تستطيع حمل وتحمل كل تلك المآسي التي تكلل منطقتنا، وأن تختصرها بطقس قتل لأجل بقاء وتكريس هذه المساحات المفرغة والخالية من الإنسانية بين بشر هذه المنطقة كطوائف. فور جلوسنا أخرج هاتفه، ينظر فيه، يقلب في عناصر شاشته، ويضغط على أزراره دونما انقطاع، وتوقف ومال علي قليلًا وقال لي: انظر، فما كان مني إلا أن نظرت.

شاهدت فيديو لإعدام فتاة بالحجارة في إحدى المناطق السورية، التي لم يتسن لي حتى الآن تحديدها على وجه الدقة، لأن أفراد الطائفتين اللتين نسجتا هذا المشهد الدموي بمعتقداتهما وتراكماتهما المتوالية خلال القرون الخالية، قد تبادلوا الاتهامات بشأن من فعل ذلك. قال لي صديقي إن طائفة صغيرة في الجبل قد قتلت إحدى بناتها جزاء حبها وزواجها لاحقًا بأحد أبناء طائفة أخرى. سألت نفسي وقد اصفر وجهي من الرعب جراء مشاهد الفيديو: هل حبنا تهمة يكون العقاب فيها القتل رميًا بالحجارة؟ 

قتلت تلك الأنثى العاشقة بحجارة هوياتنا، هذه الهويات التي يجب ألَّا تمس بأي شكل. ما الذي دفع تلك الفتاة إلى تحدي أوهام الهوية والانتماء في هذه المنطقة، فر الرجل، ابن الطائفة الأخرى، فيما واجهت الفتاة تعقيدات طوائفنا بمنتهى الشجاعة، وتركت لنا الشك والريبة تجاه الآخر، لنعيش ونقتات عليهما.

كانت الانتماءات الطائفية شريكة في صنع هذا الخراب كله

كان قتلها بتلك الحجارة الآثمة نوعًا من العبثية الخرساء، ذلك النوع من الخرس الذي يمتنع معه أي نوع من التحايل للإفصاح عما يجول في خواطر هؤلاء البشر من وساوس شيطانية وأمراض دفينة، خرس يأبى فقأ دمامل تفكيرنا ويصر على دفنها تحت الحجارة المسجية بدماء تلك الشابة.

خلال الأعوام المنصرمة راح آلاف تحت حجارة مدن هذه البلاد المهشمة والمنكوبة جراء قصف طائرات النظام، ودماء أخرى سالت في معتقلاته المظلمة، وأعناق عديدة ضربت بالسيف أمام الناس. كل ذلك صحيح ولكني لا أتذكر إلا أنفاس تلك الأنثى الشابة المضرجة بدمائها تحت الصخر وتحت الشتائم، وتحت دعوات القتل تثقل مسامعي. 

نعم رغم كل الدماء التي سالت خلال هذه الثورة لم أشعر بالخوف والرغبة والهروب من هذا العالم كما شعرت عندما رأيت ذلك الفيديو، لذلك لم أحمل هاتفًا قادرًا على تحميل الفيديوهات طوال سنوات، لقد كانت الانتماءات الطائفية شريكة في صنع هذا الخراب كله. بالمناسبة أتذكر قول أحد أبطال رواية "التائهون" لأمين معلوف: "لا تكمن مشكلة منطقتنا -الشرق الأوسط- في الدين، لسنا أكثر تدينًا من الغربيين، ليس الدين من يقتلنا هنا.. بل الانتماء، نعم هو الانتماء". 

اقرأ/ي أيضًا:

الطائفية .. كما تراها صديقتي المغربية

المثقف الطائفي في العراء