تواجه الأمم المتحدة مع بلوغها عامَها الثمانين مشاكلَ في التمويل والسيولة. وأمام هذه المعضلة، التي وصلت هذا العام حدًّا مقلقًا بسبب تقاعس الولايات المتحدة الأميركية والصين في دفع اشتراكاتهما، وَجدتْ المنظّمة الأممية نفسها مرغمةً على اتباع حِمية تقشّفية، لا يُستبعد أن تطال تأثيراتها وتداعياتها التدخلات والبرامج الإنسانية للمنظمة من جهة، وقطاعًا عريضًا من العاملين فيها من جهة ثانية، إذ أفاد مسؤولٌ أممي بإمكانية تسريح العديد من العاملين فيها.
وممّا يجعل مسألة الإصلاحات المالية أمرًا ملحًّا بالنسبة للأمم المتحدة، عودة ترامب إلى البيت الأبيض في عهدة رئاسية ثانية. وكان ترامب قد علّق في عهدته الأولى المساهمة الأميركية في ميزانية الأمم المتحدة، واستهلّ عهدته الجديدة بالشطب على معظم المساعدات الخارجية الأميركية التي تشكّل موردًا مهمًّا للعديد من الوكالات الأممية الإنسانية على غرار منظمة الصحة العالمية واليونسيف.
يشار إلى أنّ ترامب شكّل لجنةً برئاسة الملياردير إيلون ماسك تحت اسم "لجنة الكفاءة الحكومية الأميركية"، وقد قامت هذه اللجنة بتفكيك العديد من الوكالات الاتحادية الأميركية، بما فيها الوكالة الأميركية للتنمية، التي تتدخّل في عشرات الدول حول العالم.
غوتيريش: ميزانيات الأمم المتحدة ليست مجرد أرقام في الميزانية العمومية، بل هي مسألة حياة أو موت لملايين الأشخاص حول العالم
في شباط/فبراير الماضي، صرّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن الأمم المتحدة تمتلك "إمكانات هائلة وسنواصل مواكبتها، لكن عليهم أن يرتّبوا أمورهم"، وهو ما استدعى ردًّا سريعًا من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أكّد أن المنظمة "تعمل بلا كلل لتنفيذ الإصلاحات"، نافيًا أن تكون مبادرة "الأمم المتحدة 80" استجابة للضغوط الأميركية، مشيرًا إلى أنها "تكثيفٌ لإصلاحاتٍ كانت جارية بالفعل".
وخلال الإعلان عن المبادرة، شدّد غوتيريش على الحاجة إلى "التحرك بسرعة في المجالات التي يملك فيها سلطة"، داعيًا الدول الأعضاء إلى اتخاذ قرارات تعزز استقرار المنظمة. وأوضح أن "موارد الأمم المتحدة تتضاءل على جميع المستويات"، محذرًا من أن "ميزانياتها ليست مجرد أرقام، بل تتعلق بحياة أو موت ملايين الأشخاص حول العالم". كما نبّه إلى أن جميع الدول الأعضاء الـ 193 لا تدفع اشتراكاتها الإلزامية في الوقت المحدد، ما أدى إلى أزمة سيولة مستمرة منذ سبع سنوات.
عجز في التمويل ومتأخرات ضخمة
وفقًا للبيانات الرسمية، تبلغ ميزانية الأمم المتحدة لعام 2025 نحو 3.7 مليار دولار، تُخصّص لتمويل برامج إنسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، إلى جانب دعم وكالات المنظمة، مثل برنامج الأغذية العالمي واليونيسف. ومع ذلك، فإن تخلّف الدول الأعضاء عن دفع مساهماتها يفاقم الأزمة المالية.
وتُعدّ الولايات المتحدة والصين أكبر مساهمين في الميزانية العادية للأمم المتحدة، حيث تتحمل واشنطن 22% من إجمالي الميزانية، فيما ارتفعت مساهمة بكين إلى 20% هذا العام. غير أن الولايات المتحدة لم تدفع حتى كانون الثاني/يناير الماضي متأخراتها التي بلغت 1.5 مليار دولار، وهو مبلغ كبير مقارنة بالميزانية العامة للمنظمة. أما الصين، فلم تسدد بعد مساهمتها لعام 2024، ما دفع وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، توم فليتشر، إلى الإشارة إلى "غموض كبير" بشأن الوضع المالي للعام الحالي. وعلى الرغم من تعهد بكين بدفع مساهمتها، لم تُحدد واشنطن بعد حجم التزامها المالي، وفق ما نقلته وكالة "رويترز" عن مصدر أممي.
إجراءات تقشفية وخفض الإنفاق
في ظل هذه الأزمة، قررت الأمم المتحدة اتباع نهج مالي حذر، حيث خفضت إنفاقها المخطط بنسبة 20%، وفرضت تجميدًا على التوظيف، مع احتمال اللجوء إلى تسريح بعض الموظفين. وتندرج هذه التدابير ضمن خطة "الأمم المتحدة 80"، التي تهدف، وفقًا لغوتيريش، إلى "إنقاذ المنظمة ماليًا وتعزيز كفاءتها"، رغم رفضه مقارنتها بمبادرة الرئيس ترامب والملياردير إيلون ماسك لترشيد الإنفاق الحكومي، المعروفة باسم "دوج DOGE".
غوتيريش: جميع الدول الأعضاء الـ 193 في الأمم المتحدة لا تدفع اشتراكاتها الإلزامية العادية بالكامل أو في الوقت المحدد، وبتأثيرٍ من ذلك، تواجه منظمة الأمم المتحدة التي تأسست 1945 أزمة سيولة للعام السابع تواليًا.
الإصلاح المؤلم:
كلّف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أمس الأربعاء، مجموعة عمل داخلية بمهمة تحديد "المجالات والسبل الممكنة لترشيد النفقات وتعزيز كفاءة المنظمة الأممية". ونقلت وكالة "رويترز" عن مسؤول في الأمم المتحدة، طلب عدم الكشف عن هويته، أن "الهدف من هذا الفريق هو تجديد هيكلة المنظمة ووكالاتها وصناديقها وبرامجها، بما يضمن استدامتها المالية".
وفي إطار خطة خفض النفقات، أفادت مصادر متعددة بأن هناك تحركات لنقل "بعض أنشطة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) وصندوق الأمم المتحدة للسكان من مقريهما الحاليين في نيويورك إلى العاصمة الكينية نيروبي". كما يجري التخطيط لتقليص المصاريف على أكثر من صعيد، مع اتخاذ قرار بوقف التوظيف في المنظمة، ودراسة إمكانية الاستغناء عن بعض الموظفين.