11-يناير-2025
سوق الحميدية في دمشق (منصة إكس)

فيتنام الثانية/الفنان الأميركي ليون جولوب

 

شهدت سوريا منتصف القرن الماضي، وتحديدًا عشية الاستقلال وخلال الفترة التي تلته مباشرة، حراكًا سياسيًا بدا واعدًا حينها، إلا أن الظروف التي نشأت لاحقًا أدت إلى وصوله إلى طريق مسدود.

تميز هذا الحراك بتمثله لكثير من قيم الحرية والحقوق المدنية، لكن العنصر الأبرز فيه كان اقتصاره على فئات نخبوية مدينية حافظت على امتيازاتها الفئوية منذ العهد العثماني، مرورًا بالحقبة الكولونيالية الأوروبية، وحتى عهد الاستقلال.

احتفظت هذه الفئات بجوهرها الإقطاعي العائد إلى العهد العثماني، رغم اكتسابها سمات برجوازية خلال الحقبة الكولونيالية، حيث ظلت تلك السمات سطحية ولم تتغلغل إلى المضمون. فبنيتها الإقطاعية الأساسية جعلت وعيها قاصرًا عن إدراك حاجات مجتمعها، مما حال دون قدرتها على تجذير الحقوق المدنية وتعميقها وتعميمها عبر إقامة بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية حديثة ومواكبة. وكان ذلك بالرغم من وجود فرصة تاريخية تمثلت في انتعاش الروح الوطنية لدى مجتمع تحرر حديثًا من نير الاستعمار.

من المهم التنويه إلى أن النظام الذي استولى على الحكم إثر انقلاب عام 1963 في سوريا لم يكن تعبيرًا عن تحالف للأقليات الطائفية ضد الأغلبية، بل كان انعكاسًا لتحالف أبناء الريف الناقمين على المدينيين بصفة عامة

ولا شك أننا نجانب الصواب إذا توقعنا من فئات تفتقر إلى انتماء طبقي برجوازي أصيل (أي لم تخض ثورة طبقية حتمية بعد وصول مصالحها إلى تناقض جذري مع البنى الإقطاعية، بل نشأت من رحم هذا الإقطاع نفسه) أن تنهض بمهمات الثورة البرجوازية وفقًا لما تُعرف به أكاديميًا وبحسب التجارب التاريخية. وبينما نشأت هذه الفئات في كنف الاستعمار ورعايته، كان من الطبيعي أن تتسم بالتبعية الاقتصادية والسياسية له. ولعل هذه التبعية تجلّت بشكل أكثر وضوحًا في لبنان، حيث استمرت الفئات الحاكمة في وصف الدولة المستعمِرة سابقًا بأنها "الأم الحنون".

إذًا، لم تعمل تلك الفئات على توسيع الحراك ليشمل الريف وأبناءه، الذين كانوا ولا يزالون يشكلون الكتلة الأكبر في سوريا. لم تكن هذه الفئات راغبة في ذلك، كما أنها لم تمتلك القدرة اللازمة. أدى هذا إلى اتساع الهوة بين المدينة والريف، ففي حين فضّل أبناء المدن امتهان السياسة والتجارة والحرف الأخرى، لجأ أبناء الريف إلى التطوع في المؤسسة العسكرية، مدفوعين بالفقر المدقع أكثر من أي شيء آخر. ومع استمرار المشكلات وغياب النخب المبدعة القادرة على إدراك هذه الأزمات وإيجاد الحلول لها، بدأ أبناء الريف يواجهون النزعة الفوقية التي عاملهم بها المدينيون بنزعة انتقامية. تنامت هذه النزعة تدريجيًا إلى أن أصبحت ذات طابع تدميري، بعد أن أضفت السلطة عليها عمدًا لبوسًا طائفيًا مع نهاية سبعينيات القرن الماضي.

ومن المهم التنويه هنا إلى أن النظام الذي استولى على الحكم إثر انقلاب عام 1963 لم يكن تعبيرًا عن تحالف للأقليات الطائفية ضد الأغلبية، بل كان انعكاسًا لتحالف أبناء الريف الناقمين على المدينيين بصفة عامة. ويمكننا أن نستدل على ذلك من خلال نقطتين رئيسيتين. الأولى، استثناء الفئات المسيحية من هذا التحالف، رغم مشاركتها الفعالة في الطبقة السياسية التي حكمت مباشرة بعد الاستقلال، ويعود هذا الاستثناء إلى أن أغلب أبنائها يتمركزون في المدن الكبرى. أما النقطة الثانية، فهي العدائية التي أظهرها هذا التحالف تجاه فئات التجار المنحدرين من المدن، مقابل المكاسب التي مُنحت لأبناء الريف على اختلاف طوائفهم.

لكن كما كان الفشل مصير الحكم الذي غلّب مصالح الفئات المدينية من المجتمع على ما عداها، فشلت أيضًا السلطة التي عمدت إلى عكس مجريات الأمور. فعندما دخل شخوصها في صراعات داخلية مدفوعة بالرغبة في الاستئثار بالسلطة والسيطرة المطلقة، تمكن الجزء الأقوى منهم (المقصود هنا حافظ الأسد) من حسم الصراع لصالحه. اعتمد الأسد على بناء تحالف جديد مع بعض فئات التجار، دون المساس فعليًا بالمكاسب التي حققها أبناء الريف. وبدا، لوهلة، أن السلطة آنذاك قد ظفرت بما عجز عنه كل من سبقها، إذ حققت إجماعًا شعبيًا واسعًا تكلّل بـ"النصر" الذي تحقق على العدو التاريخي في حرب تشرين. غير أن زهو الانتصار وشعور الحكام الجدد بالغلبة (إضافةً إلى الرغبة في الانتقام التي أشرنا إليها سابقًا) دفعهم إلى انتهاج سلوك اتسم بالاستعلاء والفساد، ما أسهم في تأجيج التناقضات القديمة وتعزيزها.

إذًا، بدل أن تستفيد السلطة مما بدا التفافًا جماهيريًا حولها، اتجه شخوصها إلى انتهاج سلوك قائم على الاستعلاء واحتقار المجتمع والاستخفاف بقدراته. أدى ذلك، مع الفساد المنهجي والسلوك التدميري، إلى انكشاف السلطة أمام شرائح واسعة من السوريين آنذاك. كما أن الصفقات التي عقدتها السلطة مع بعض فئات التجار (وخاصة الدمشقيين) لم تكن مرضية للشرائح الأوسع من المدينيين، فضلًا عن النخب المثقفة. وبناءً على ذلك، انطلق الحراك الذي شهدته أواسط السبعينيات من القرن المنصرم، متسمًا بانتشاره بين النخب المختلفة وفي المدن "المغبونة" مثل حمص وحماة وإدلب وحلب. على العكس، تجاوبت العاصمة والريف بشكل ضعيف مع هذا الحراك، باستثناءات قليلة.

 

وفي حين أن السلطة في سوريا كانت تسعى فقط إلى إدامة سيطرتها على المجتمع، لجأت إلى استخدام جميع الأسلحة المتاحة للقضاء على الحراك، إن لم يكن لتدمير المجتمع ذاته. استغلت السلطة وجود بعض الفئات الطائفية ضمن الحراك لتسلّط الضوء عليها وتضيّق عليها بشتى السبل، مما دفعها إلى حمل السلاح في وجهها. يبدو أيضًا أن السلطة أمرت محازبيها بالتصرف مع تلك الفئات بطريقة تُظهر البعد الطائفي للصراع، بهدف تحقيق غاياتها. وبعد أن نجحت في ذلك، لجأت إلى تدمير مدينة حماة (التي روّجت لها على أنها المعقل الرئيس لتلك الفئات) لتكون عبرة لبقية المدن المنتفضة. ويبدو أن اختيار حماة، كمدينة صغيرة نسبيًا، كان هدفه تقليل الكلفة وتجنب الرفض الدولي (أو بالأحرى ضمان الحصول على موافقة ضمنية دولية).

استغلت السلطة "انتصارها" في حماة وبدأت بملاحقة وقمع من وصفتهم بـ"فلول عصابة الإخوان المسلمين"، إلى جانب منتسبي ومؤيدي بقية الأحزاب والحركات السياسية غير الموالية لها. عملت على تصحير المجتمع سياسيًا، فحظرت جميع الأحزاب، ومنعت أي نشاط سياسي مستقل، وفرضت رقابة صارمة على المجتمع بذريعة مواجهة "مؤامرة خارجية بأدوات داخلية". وفي هذا السياق، واظبت على وصف الإخوان المسلمين بأنهم "عصابة عميلة للخارج".

عملت السلطة في سوريا على تصحير المجتمع سياسيًا، فحظرت جميع الأحزاب، ومنعت أي نشاط سياسي مستقل، وفرضت رقابة صارمة على المجتمع بذريعة مواجهة "مؤامرة خارجية بأدوات داخلية"

وهكذا، تمكنت السلطة من سحق المجتمع وترويعه، كما فرضت سيطرة مطلقة على جميع المؤسسات، بما فيها المؤسسة الدينية، التي أُعيد تشكيلها لتتناسب مع أهدافها. ألغت أي فضاء عام قد يجمع السوريين، باستثناء الفضاء الديني الذي كان تحت سيطرة المؤسسة الدينية الرسمية، والتي جرت قولبتها بطريقة لا تجمع بقدر ما تفرّق. أجرت السلطة أيضًا "إصلاحات" اقتصادية متعاقبة هدفت من خلالها إلى استمالة المزيد من فئات التجار والصناعيين المؤثرين، خاصةً في حلب ودمشق، بغية توسيع قاعدتها الشعبية.

علاوةً على ذلك، بدأت بعض شرائح الأقليات الدينية (بما في ذلك المدينيون) بتقديم انتمائها الطائفي على انتمائها الوطني. استمالتهم السلطة بخطاب مخاتل تحت شعار "السلطة الحامية للأقليات"، وهو خطاب زائف كفيل بتحريض الأقليات ضد الأغلبية، واستجلاب عداء الأخيرة ضدهم، مما جعل فكرة "الحماية" بعيدة المنال. وفي النهاية، وكما شبّه إريك فروم مهنة السياسي بقيادة السيارة، أصبحت سوريا كالسيارة القديمة التي تحتاج إلى إصلاح جذري، إلا أن السائق خشي أن ينتزعها الركّاب بحجة الإصلاح، فعمد إلى إجراء تعديلات جوهرية عليها، بحيث بات من المتعذر على أي شخص غيره قيادتها أو إصلاحها. وأي محاولة للإصلاح كانت تتسبب بتعطيلها بالكامل.

وجرت "الإصلاحات" الاقتصادية التي تحدثنا عنها خلال أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في ظل خمول تام للمجتمع، الذي لم يكن قد أفاق بعد من هول الكارثة. واستمر هذا الوضع حتى مطلع القرن الحالي، وبالتحديد خلال ما عُرف بـ"ربيع دمشق"، الذي اقتصر على بعض دوائر النخب الضيقة إلى درجة أن أسماء مثل رياض الترك وميشيل كيلو لم تكن تعني شيئًا لعموم الناس آنذاك.

وهكذا ظنت السلطة أنه بإمكانها تمرير ما تريده دون أن يحرّك المجتمع ساكنًا. فاندفعت نحو الإمعان في سياسة الاستحواذ العائلي على مقدرات البلاد، وتوجت سياستها تلك بممارسات وحشية تجاه المعارضة والمجتمع عمومًا، إلى جانب إطلاق عملية اللبرلة الاقتصادية والخصخصة في منتصف العقد الماضي. كما خفّضت الإنفاق الحكومي إلى أدنى مستوى وعوّضت ذلك بإثقال كاهل المواطنين بالضرائب المختلفة لتمويل مشاريعها.

وبالتالي، بدأت مكتسبات العديد من الفئات الوسطى تتآكل تدريجيًا، إلى جانب الفئات الشعبية التي كانت تعاني أصلًا في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي. وكان المتضررون الرئيسيون هم أبناء الريف والمدن الوسطى والصغيرة وسكان الضواحي. بهذا، أخذت الحياة تصبح مستحيلة بالنسبة لمعظم هؤلاء، وهو ما فصّله وشرحه المفكر سلامة كيلة مرارًا. هذا الوضع دفعهم إلى تلقف شرارة الثورة القادمة بسرعة من الجوار العربي. ومن هنا، نؤكد أن هؤلاء لم يخرجوا دفاعًا عن دين (وهل يحتاج الدين إلى دفاع أساسًا؟) ولا نصرة لطائفة (وهي تشكل الأغلبية في الشعب السوري)، بل خرجوا بصفتهم الكتلة الرئيسية من هذا الشعب، كتلة تسعى إلى تحصيل حقوقها المهدورة.

وفي حين أننا لسنا بصدد الاستفاضة في هذا الموضوع الآن، فإنه لا بد من الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يختلط على أحد فهم الدوافع التي أدت إلى انطلاق القسم الأوسع من الشرائح المنتفضة من خلفية إسلامية اجتماعية. وإن كانت هذه الشرائح تضم بعض الفئات الطائفية المتشددة، فلا يمكننا توقع حراك يخلو تمامًا من هؤلاء، خصوصًا بعد العقود الطويلة من الوحشية والقمع. لا شك أن أي حراك تنهض به جماعة معينة يستند إلى الوعي والخلفية الثقافية السائدين في المجتمع الذي تنتمي إليه. فمن البديهي القول إن هذا الحراك يهدف إلى تغيير البنى التي أنتجت ذلك الوعي وتلك الخلفية. وبالتالي، فإن هذا التغيير لن يتحقق ما لم ينجز الحراك أهدافه أولًا.

كما لا شك أن التعرّض للقتل والإبادة والتهجير القسري يدفع الناس إلى البحث في مخزونهم الثقافي عما يحثهم على الصمود ومقاومة الظلم، وليس عن ما يدعو إلى التسامح والمحبة. والمفارقة هنا أن أعمال الصمود هذه تُعد بطولية وجديرة بالثناء إذا قام بها أي طرف آخر، لكنها تُعتبر "إرهابية" إذا صدرت عن شخص مسلم. فعلى سبيل المثال، صيحة "الله أكبر"، التي كانت تثير الحماسة والشجاعة، أصبحت تثير الذعر وربما الكراهية لدى البعض نتيجة الفكر المعلّب والمستورد الذي يستهلكه البعض بشراهة.

 

معالجة الطائفية والصراعات:

في نهاية المطاف، وكما جرى تفعيل الطائفية من خلال إثارة المشكلات القائمة بين الريف والمدينة والتلاعب بها (وقد دفعت الطائفية فئات من الريف إلى الاصطفاف مع سلطة لم تعد تمثل مصالحها، كما دفعت فئات مدينية مضللة إلى دعمها دون أن تخدم مصالحها يومًا)، ينبغي علينا الآن العمل على تجفيف المنبع الرئيسي للطائفية. ويتطلب ذلك إنهاء الصراع الأزلي بين الريف والمدينة، وبين الحضر والبدو، وغيرها من الصراعات ما قبل الحداثية.

كما جرى تفعيل الطائفية من خلال إثارة المشكلات القائمة بين الريف والمدينة والتلاعب بها، ينبغي علينا الآن العمل على تجفيف المنبع الرئيسي للطائفية ويتطلب ذلك إنهاء الصراع الأزلي بين الريف والمدينة، وبين الحضر والبدو، وغيرها من الصراعات ما قبل الحداثية

مع ذلك، لا يعني هذا التخلي عن الهويات الجزئية، بل يتطلب من الطبقة السياسية المقبلة العمل على إعادة توزيع الأدوار والثروات. ونقول "الأدوار" قبل "الثروات"، لأن التهميش والاستعلاء يؤديان إلى عواقب قد تكون أكثر كارثية من الإفقار والتجويع. فلا شك أن دولة المواطنة الديمقراطية يجب أن تعزز الحقوق المدنية لكل من أبناء المدينة والريف. كما أن ذلك لا يتحقق إلا بدعم قطاعي الزراعة والصناعة (المتوسطة وغيرها) اقتصاديًا، إلى جانب تفعيل مشاركة جميع أطياف الشعب السوري في أي عملية سياسية قادمة.

 

رؤية للمستقبل:

إلى جانب ذلك، ينبغي ترسيخ مبدأ التراتبية ضمن المساواة. وهنا يمكننا استحضار الشرح الذي قدمه الراحل إلياس مرقص لمقولتي "الله أكبر" و"الله أعلم". أمام الله، نحن جميعًا متساوون لأنه أكبر وأعلم منا جميعًا (ويجب أن يكون القانون كذلك). أما فيما بيننا، فهناك من هو أكبر علمًا أو خبرة أو إنتاجًا، ويجب أن تُقدّر تلك الفروقات وفقًا للعمل والإنتاج.

قد يبدو الحديث عن هذا الآن مبكرًا جدًا، إذ أن الأولوية يجب أن تكون لإيجاد حلول فورية للكوارث المجتمعية الحالية. لكن لا بد أيضًا من النظر بعيدًا إلى المستقبل، كي تكون سوريا الجديدة "سوريا الله أكبر"، التي تمنح أبناءها من الأجيال الشابة والقادمة المساواة، والحياة الكريمة، والاستقرار، والانسجام.