03-سبتمبر-2018

التشكيلي التونسي الحبيب بيده

تصعب علينا أحيانًا كثيرة بلورة بورتريه عام لأكاديمي أو مفكّر أو باحث أو فناّن –أو كلّها مجتمعة معًا- في مجال الفنون التشكيليّة، نظرًا لتداخل الأساليب التشكيليّة المعتمدة لديه وعدم وجود أفكار ممنهجة خلف الممارسة التي هو بصددها. يجعلنا ذلك عاجزين على تتبّع مسار تفكيري يؤسس تجربة تشكيليّة عميقة، ولا أحد ينكر وضع الفنون التشكيليّة الآن الغارق في انعدام "التفكير والتفكّر".

الحبيب بيده.. مسيرة متناغمة للباحث والفنّان

تصبح التجارب القليلة لبعض المفكرين الذين ينتمون إلى جيل سبقنا بكثير هي التي تمنحنا شرعيّة التساؤل حول ضرورة التلبّس بالتفكير المستمرّ في ذواتنا، وعدم الاستسلام لتيّار الاستكانة والإذعان تحت شعار "هاني معاكم".  تستوجب منّا -أكثر من ذلك- محاولة الغوص الحثيثة في خفاياها علّها تدفعنا إلى الإجابة على بعض الأسئلة، ولو ما يَسُر منها علينا، خاصّة تلك التي تدور حول جدوى الكتابة ومعنى الرسم ودلالة الصورة.

يصرّ الحبيب بيده على تسمية "الأجساد" بـ"الأطياف"، والتي أصبحت تقريبًا أبطالًا مركزيّة على مساحات قماشات تجربته التشكيليّة في السنوات الأخيرة

يعتبر الأستاذ الحبيب بيده آخر فرد من جيل، الأخير ربما، استجاب إلى مقومات المفكّر/ الباحث ذاك الذي ينظّر لمساره التشكيلي ويرسم معالم شخصيّته بوضوح، بدليل خطّه الفنيّ المترابط الذي عزّزته كتاباته النقديّة والتحليليّة أثناء مسيرته الطويلة والثريّة، وبغضّ النظر عما إذا كانت الممارسة تحظى بإعجابنا أو لا، فنحن إزاء شخصيّة نعتبرها عَلَمًا أكاديميًّا تونسيًّا يستحق التقدير عبر البحث في أعماله بطرق مختلفة.

[[{"fid":"102524","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"حبيب بيده","field_file_image_title_text[und][0][value]":"حبيب بيده"},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"حبيب بيده","field_file_image_title_text[und][0][value]":"حبيب بيده"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"حبيب بيده","title":"حبيب بيده","height":390,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

يصرّ الحبيب بيده على تسمية "الأجساد" بـ"الأطياف"، والتي أصبحت تقريبًا أبطالًا مركزيّة على مساحات قماشات تجربته التشكيليّة في السنوات الأخيرة. يصرّح: "الأجساد التّي أرسم هي لا زمانيّة ولا مكانيّة وليست ملكًا لأحد، بل هي ملك مشاع باعتبارها تسكن كلّ ذهن حسّاس وهي متنوّعة ولانهائيّة بل سرمديّة أبديّة كالأطياف الحلميّة"1.

الأطياف وتمارين الخفّة اللّغويّة

لا يترك فنّاننا شيئًا للصدفة، وإصراره على التسمية إنّما هي "لغاية في نفسه"، فالأطياف لغويًّا هي جمع طَيف، وهي مصدر طاف بـ/ طاف على/ طاف في، والطّيف بمعنى الخيال والحلم، وفيه أيضًا معنى الجنون والغضب. والأطياف اللّونية هي الانعكاس المرئي للضوء. هو لا يخفي تعلّقه الدائم بلعبة اللّغة2، التي تمكّنه في كلّ مرّة يتكلّم أو يكتب فيها من دعوتنا إلى التفكير في أسلوبه الفني الذي يعتمد على حساسيّة اللّون وشفّافيّة المادّة، فالأجساد الأطياف تطفو على السطح لتَطُوف في رقصة حالمة، صوفيّة بالمعنى الشعوري للفنّان، على اعتبار أنّ الجسد الذي يَرسمُ والجسد المرسوم وجهان لعملة واحدة، فالأوّل يتخمّر وهو يطوف بريشته على المحمل، أمّا الثاني فهو يتكشّف متخفيًا في رقصة دراميّة حلزونيّة يعبّر عنها الأستاذ بيده بالــ"حركة الجابذة النابذة"3 للأجساد الموهومة: ولا غنى هنا عن الاثنين (جبوذها ونبوذها)، والثانية تستلزم الأولى، إذ يجب أن ننظر مطوّلًا لنسمع بشكل أفضل ونبلغ الفهم/ الوهم.

اقرأ/ي أيضًا: علي فرزات.. الكاريكاتير مع الناس وإليهم

يدفع بنا مرّة أخرى هذا الاختيار الدقيق لكلمات الحبيب بيده في وصف حركة أطيافه الجسديّة/ الجسمانيّة للتفكّر في تعلّق الدلالة التصويريّة والدلالة اللّغويّة، حيث لا يترك مجالًا للارتجال لأنّه يتكل على جدليّة الفكرة والتصوير. حيث يقول الحبيب بيده: "إنّ الأجساد "الموهومة" تندمج في يمّ اللّون/ النور وتتلوّن ولا تُلوّن. تعجز آلة التصوير الفوتوغرافي أحيانًا على المسك بها نتيجة لالتماعها المتواصل... لننظر إلى التصوير في حدّ ذاته كتصوير وللطرب البصري الذي يوقعنا في شراكه"4.

الروح والطيف في عالم سرياليّ

يعتمد استيعاب صورة "الطيف" في تصويريّة فنّاننا، على فهم مبدأ "الحلم التأمّلي" الذي انتهجه خلال تجربته والذي مكّنه من الارتقاء التصويري على المحمل في تجلّيه الصوفيّ فالــ"أطياف الشخوص التي صوّرتها –يقول الحبيب بيده- ناتجة عن تجربة إدراكيّة شخصيّة انطلقتُ فيها من نزوة بصريّة صوفيّة"5، وهنا إشارة إستباقيّة إلى الروابط الخفيّة التي تجمع بين فعل إدراكه لما يشعر به والحركة التصويرية المتوالدة التي تليه أو توازيه، تلك الحركة ذات الإيحاءات الأفلاطونيّة خاصة وأنّ الحبيب بيده دائما ما يؤكّد على أنّ المواضيع "هي دائما مجرّدة حتى في تناول تشخيص ما "6، (بدليل أنّ شخوصه في جزئياتها هي أشكال تجريدّية متراكمة ومتجاورة ومركّبة، هي مركّبة بالتفكيك).

لا يحبّذ الحبيب بيده تحديد هويّة شخوصه ويصفها بالأجساد المطلقة. يؤكّد على تعدّدية أطيافه وتشابك "وجوهها" نحو الداخل في حركة معكوسة من المحسوس إلى اللّامرئي، هذه الحركة الموَحدة من الانتشار الذي يستطيع بواسطته أن يشعر في ذاته بغيريّة النموذج الذي يدركه فلا يهتمّ إن كان جسدا لأنثى أو غيرها، المهمّ اقتناص لذّة الطوفان التصويري. فصورة الأجساد هذه، وسيطة وشفافة وضبابيّة وعائمة/ غائمة، بعيدة عن حفظ وتركيز انتباهنا على جزء بعينه. توسّع رؤيتنا بشكل كبير حول جوهر الفعل التشكيلي للفنّان، لتقذف بنا بعيدا نحو الحركة المزدوجة من الانثناء والتحليق لجسد الصورة الذهنيّة وأجساد التصوير الخيالي.

تعتبر رقصة الأجساد الطيفيّة في أعماله طبقة متراكمة من "الأحلام المسرودة"7، تلك التي اعتبرها سلفادور دالي "الأكثر غموضًا وشاعريّة وإيروتيكيّة وجنونًا وفسادًا وعذابًا ورثاءً وعظمةً وعمقًا بيولوجيًّا"8.عبّر عنها الحبيب بيده في تعريفه للحلم بأنّها "سرّ من أسرار الكون، وطوفان الروح في عالم برزخي بين الواقع والخيال. تيه أطياف الروح في هذا العالم الطيفيّ"9.

أيّ كابوس يخشاه الحبيب بيده؟!!

تحتوي تجربة فنّاننا على مقاربة روحانيّة عميقة متجلّية، إمّا بأفكار وتخييلات سابقة الوجود أو بضغوطات تمارسها صورة العمل التكوينيّة. إذ لا يوجد شيء للصدفة؛ كلّ تكوين هو مشهد، وكلّ مشهد له أصوله الفكريّة، وكلّ فكرة نتاج إحساس تملّكه. يقول: "تتحرّك الشخوص أمامي على ركح مسرحي أو وسط مشهد سينمائي"10. هناك تعبيريّة صوفيّة لا مكانيّة ولا زمنيّة –إذا صحّ لنا التعبير- مستخرجة من حركة ذهاب وإيّاب بين الإنشائيّة الفكريّة والإنشاءات التصويريّة، والتي تتمثّل في كلّ تلك الهيئات الطيفيّة المجرّدة ذات التوالد الداخلي والعكس أيضًا صحيح.

[[{"fid":"102523","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"حبيب بيده","field_file_image_title_text[und][0][value]":"حبيب بيده"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"حبيب بيده","field_file_image_title_text[und][0][value]":"حبيب بيده"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"حبيب بيده","title":"حبيب بيده","height":356,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

من داخل هذه العلاقة السُرياليّة بين الحلم، وإدراك الحلم، والاستمرار في الحلم تصويريّا، يواصل الفنّان استدعاء أشكاله الطوفانيّة المتخفيّة في شكلها الممتد المتمدّد، ولا يسمح لصوره بالإجابة على "الطيف هل هو إمتاع أم معاناة" تمامًا كالندوب والجروح التي تبدو زخرفيّة مثلما تبدو شنيعة؟

ليس ثمّة من جواب فاصل لأي تساؤل، ما دام البحث مستمرًا، وما دام المبدع فيه ما زال حيًّا بخيالاته

ألا يخلق عملًا هادئًا، ظاهريًّا على الأقلّ،  كهذا الذي نحن بصدده، نوعًا من العدوى  التشكيكيّة الدائمة فيما يمكن أن يكون عملًا إعصاريًّا؟ ألسنا إزاء معركة جمالية أخرى بين الوهم الطيفيّ المتخفي والشبح الكابوسيّ الذي يمكن أن يكون خلف ذلك الحجاب؟ ألا يمكن لهذه الأطياف أن تكون هي ذاتها ذلك الكابوس الذي يخشاه؟

اقرأ/ي أيضًا: ديلاكروا.. حياة كالعاصفة

يبرهن لنا الباحث الحبيب بيده كأكاديمي متمرّس، على أنّ ليس ثمّة ربما من جواب فاصل لأي تساؤل، ما دام البحث مستمرًا، وما دام المبدع فيه ما زال حيًّا بخيالاته، وما دامت تجليات العمل الفكريّ في ممارسته الابداعيّة قابلة للتطوّر الدائم. وربما أيضًا سيترك لنا، بصفته مراقبًا مترقّبًا، إمكانية الحصول على أجوبتنا الذاتيّة بما أنّ الجواب يمكن أن يكون في كلّ مكان ولا مكان، أين تجعل الروحانيّة من نفسها جسديّة بشكل ضمنيّ في التصوير وسرمديّة بشكل جوهري في المخيّلة، يقول: "أنا الآن، المنفلت إلى مستقبلي دائمًا ودومًا، بكل ما يحتويه وبكلّ ما لا يحتويه، وما سيحتويه"11.


هوامش

  1. محاورة سنة 2004. (مقتطف من بحث ماجستير للطالب قاسم فقيه "جدليّة المكتوب والمرسوم في تجربة الحبيب بيده")
  2. يحاول الحبيب بيده في كلّ مداخلاته وكتاباته التفنّن في سبر خفايا الكلمات فتجده يدقّق في الكلمة ليذهب بها الى دلالاتها الفلسفيّة والفينومونولوجيّة.
  3. المحاورة التي أجريناها مع الأستاذ حبيب بيده أيار/مايو 2016. (جابذ اسم فاعل من جبَذَ يَجبِذ، جَبْذًا، فهو جابذ، والمفعول مَجْبوذ شَدَّهُ / نابِذة صيغة المؤنَّث لفاعل نبَذ، نابذة فائقة السرعة، القوَّة النَّابذة: التي تدفع الشّيءَ للابتعاد عن المركز .وانتبذَ  انتِباذًا، فهو مُنتبِذ، والمفعول مُنتبَذ انتبذ العنبُ صار نبيذًا.انتبذ الشَّخصُ ناحيةً: اعتزل فيها وانفرد بعيدًا عن "فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا"، ونابذ فلانًا فارقه على خلاف وبُغْض)
  4. نفسه.
  5. محاورة سنة 2004. (مقتطف من بحث ماجستير للطالب قاسم فقيه"جدليّة المكتوب والمرسوم في تجربة الحبيب بيده")
  6. المحاورة.
  7. مصطلح استعمله سالفادور دالي في كتابه "الحياة السريّة"، سيرة ذاتيّة، ترجمة متيم الضايع، دار الحوار، سوريا، 2016.
  8. نفسه، ص384.
  9. المحاورة 2016.
  10. محاورة سنة 2004. (مقتطف من بحث ماجستير للطالب قاسم فقيه" جدليّة المكتوب والمرسوم في تجربة الحبيب بيده")
  11. نفسه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الاسترزاق الفني

ناجي شاكر.. الموهوب متعدد المواهب