26-مارس-2018

المستمني الكبير لـ سلفادور دالي

فيما يلي ترجمة بتصرف لمقال ظهر في موقع Aeon للدكتور باري ريي، أستاذ التاريخ في جامعة أوكلاند في نيوزيلندا، وهو جزء من كتاب مشترك بعنوان "إدمان الجنس". 


ثمّة كتاب لم يسمّ كاتبه صدر عام 1716 بعنوان "إمتاع الذات" (Onania) وقد كان مؤلّفه في غاية القلق بشأن موضوعه حينها؛ الاستمناء. فالاستمناء عنده هو "الخطيئة المشينة" ووصفه بأنه "فعل أنانيّ لإمتاع الذّات"، وهو أمرٌ في غاية القباحة حتّى أنّ المرء لا بدّ أن يتورّع حتّى عن لفظه. وفي الكتاب ذكرٌ لوبال في الدنيا وغضب في الآخرة سيحيق بممارس العادة السرية، ذكرًا كان أم أنثى.

النظرة الدينية والطبيّة للموضوع في العصور الوسطى في أوروبا خلقت حالة معادية للاستمناء في المجتمعات

وبعد نصف قرن تقريبًا من ذلك التاريخ، أي في عام 1760، ظهر كتاب آخر وضعه صامويل تيسوت استدراكًا على ذلك الكتاب، إذ رأى صامويل أنّ كل ما قاله الأوّل ليس إلا آراء دينيّة وتطهّرًا أخلاقيًّا مبالغًا به. فراح صامويل تيسوت عوضًا عن الحديث حول أخلاقية هذه العادة يعدّد المضار الجسديّة التي ترتبط بمن يمارس الاستمناء، وذكر حالات تابعها بنفسه كان بعض الرجال فيها "يبالغون في الأمر حدّ المرض... لقد عاينت رجلًا فقد عقله لكثرة ما استمنى. لقد كنت أرى ذلك الرجل جثّة هامدة، هشًّا وشاحبًا وقذرًا له رائحة نتنة ولا يقوى على الحركة". وسرعان ما انتشر الخوف من العادة السرية بعد انتشار هذه الكتيّبات وتداولها بين النّاس.

الغريب هو أنّ الاستمناء لم يكن أمرًا مرعبًا في التاريخ كما صُوّر في تلك الفترة. ففي الأزمان القديمة كان هذا الأمر من المسكوت عنه وحسب، وكان إن ذكر ينظر إليه على أنّه أمر بذيء قليلًا وربّما غير لائق. وكانت هذه هي الحال أيضًا في العصور الوسطى، حيث لم يكن أحد يقيم اعتبارًا كبيرًا لأمر العادة السريّة، وإن كانت بعض الحضارات تراه مستنكرًا ومخالفًا للطبائع البشرية. فما الذي تغيّر يا ترى؟

الذي جرى هو أنّ النظرة الدينية والطبيّة للموضوع في العصور الوسطى في أوروبا قد خلقت حالة معادية للاستمناء في المجتمعات ونافرة منها. فكانت ثمّة فكرة سائدة بأنّ المنيّ مستودع الروح وأنّه من الضروري عدم هدر هذا السائل "الثمين"، لأنّ هدره ينافي الأخلاق النبيلة. وقد واجه النّاس العادة السريّة في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر بفكرة أنّ الاستمناء "خطيئة وفاحشة وتدمير للذات"، وهذا ما ذكرته المؤرختان جين ستنغرز وآن فان نيك في كتابهما "الاستمناء: الرعب العظيم" الصادر عام 2001.

زكي وزكية الصناعي

لكنّ الأمور قد تغيّرت في القرن الأخير، وصارت "العادة السريّة" أمرًا متقبلًا في الغرب، بل وصارت ممارسة يوصي بها الأخصّاء ويشجّعون عليها كمصدر للمتعة وتفريغ الطاقة الجنسية لدى الشباب وكطريقة لتحسين الاستجابة الجنسية لدى كلا الجنسين، وذلك وفقًا لما ذكره أنتوني جيدنز في كتابه "تحوّلات الحميميّة". كما صار الاستمتاع الجنسيّ الذاتيّ وسيلة يمثّل ثورة تحرّر جنسيّة لدى المرأة في سبعينات القرن الماضي، وذلك كما يظهر في كتاب بيتي دودسون "Liberating Masturbation" الصادر عام 1974 (وقد أعيد طبعه في التسعينات بعنوان "Sex for One") وقد بيع منه أكثر من مليون نسخة، وانتشرت "ورش عمل" أو "حلقات" لممارسة تقنيات إمتاع الذات بين النساء في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.

ومن لا يعرف ألفريد كينزي وما قام به مع فريقه من الباحثين في دراسة انتشار "الميول" المثلية بين الناس في الولايات المتحدة والتجارب التي يخوضها الناس في هذا الجانب المسكوت عنه في الحياة الجنسية، كما أنه كذلك أشار أيضًا من بين نتائجه إلى شيوع الاستمناء، ذاكرًا أنه من أهم وسائل التفريغ الجنسي لدى الرجال والنساء على السواء. ففي الاستبيان الوطني للعام 2009-2010، ذكر 94% من الرجال بين سن 25-29 و85% من النساء من نفس الفئة العمرية أنهم قد مارسوا الاستمناء وهم بمفردهم (علمًا أن جميع الاستبيانات تشير إلى انخفاض هذه النسبة دومًا لدى النساء).

وبالإضافة إلى الاهتمام البحثي بمسألة الاستمناء واستكشاف أنماط هذا السلوك وآثاره ونظرة المجتمع له وتغيرها، خاصة من منتصف الستينات حتى مطلع الألفية الجديدة، فقد كان هناك اهتمام بمعرفة الأثر العلاجي للاستمناء ودوره في الوصول إلى "الصحة الجنسية"، حيث أجريت دراسات مثلًا لمعرفة ما إذا كان استمناء المرأة (باستخدام القضيب الصناعي أو الأجهزة الهزازة أو بعض أنواع الفاكهة) يساعد في تحفيز وصولها إلى النشوة الجنسية على السرير. كما ظهرت كتب عديدة تتحدث عن الآثار الجانبية الإيجابية للاستمناء، من بينها مثلًا كتاب (The Big Book of Masturbation)، وكتاب بعنوان "الاستمناء والرشاقة: دليل للمرأة"، وغيرها العديد من كتب على هذا المنوال.

كما أن موضوعة الاستمناء ليست غريبة في الأدب، ولعل أشهر مثال على استخدامها كان في رواية "Portnoy’s Complaint" للروائي الأمريكي الشهير فيليب روث، وفي قصة "Guts" للكاتب تشاك بولانيك. كما ظهرت في العديد من الأعمال الفنية، مثل رسومات الفنان جوردان ماكنزي، أو أعمال الفنانة الصربية مارينا أبراموفيتش، ولاسيما في العمل الفني المصور الذي أنتجته عام 2005 بعنوان "Balkan Erotic Epic".

أما في الأفلام والتلفزيون فموضوعة الاستمناء حاضرة أيضًا وبكثرة، وقد ظهر في العام 2014 كتاب بعنوان "الاستمناء في الثقافة الشعبية" (Masturbation in Pop Culture) لمؤلفه لورين روزوارن، أحصى فيه أكثر من 600 مشهد استمناء في السينما والتلفزيون، كان من ضمنها مثلًا حلقة في مسلسل "ساينفيلد" الأمريكي بعنوان "The Contest" عام 1992، لم يذكر فيها لفظ "Masturbation" أبدًا، وفيه مشهد تقول فيه والدة جورج لابنها بأنه يتصرف مع جسده "كأنه مدينة ملاهٍ".

هنالك إذًا كثرة في الأدلة التي تشير إلى أن الاستمناء ممارسة شائعة ومسكوت عنها غالبًا بين الناس رجالاً ونساء ومن مختلف الميول الجنسية، مغايرة كانت أو مثلية. وحول هذا يقول الأستاذ والخبير السينمائي جريغ تاك: "نحن مجتمع غارق في عالم اللذة الذاتية، حقيقة ومجازًا". حتى صار في العالم الآن نوادٍ للاستمناء، ومسابقات "ماراثونية" للاستمناء، وحفلات للاستمناء وغير ذلك.

لكن بالرغم من انتشار هذه الممارسة وشيوعها إلا أنها تبقى من أقل ما يتحدث عنه الناس حين يروق لهم الحديث عن مغامراتهم الجنسية أمام الآخرين، كما أنها ما تزال حتى اليوم موضوعًا لا يطرق بين الناس إلا فيما ندر، وذلك لما قد يولده من نظرة سلبية تجاه من يتحدث عنه أو يفعله، فالناس يفضلون عدم الإفصاح عنه لأنه إشكالي ومخجل، على حد ما ورد في تعريف الاستمناء في موسوعة المراهقة (Encyclopedia of Adolescence)، مما يعني أن الاستمناء ما يزال ضمن التابوهات التي لا يحسن الحديث عنها.

وحتى لو حصل وتطرّق أحدهم إلى الاستمناء فإنه عادة ما يكون على سبيل السخرية أو المزاح، وليس أدل على ذلك من أن الكتاب الذي أسلفنا الحديث عنه حول الاستمناء في الفيلم والتلفزيون قد أشار إلى أن الغالبية العظمى من المشاهد الـ600 التي تناولها الكتاب كانت تحيل إلى الاستمناء بشكل سلبي.

كما قد عاد الحديث عن مضارّ الاستمناء في الآونة الأخيرة في سياقات تتعلق بالإدمان على الجنس أو فيما يرتبط بالآثار السلبية للمواد الإباحية على الإنترنت، حيث تسود الفكرة بأن المواد الإباحية قد أدت إلى انتشار كبير لممارسة الاستمناء، فارتبط هذا بذاك ارتباطًا يجعل الاستمناء أمرًا يرتبط بضعف الإرادة وإدمان الجنس وضعف العلاقات الاجتماعية، وهو لذلك أمر مقزز ومخجل. فالذي يستمني هو بالضرورة ذلك الشخص الذي يشاهد البورنو على الإنترنت، أي ذلك المدمن على المواد الإباحية المهووس بالاستمناء، حتى صار الحديث عن مشاهدة البورنو كناية لازمة عن ممارسة الاستمناء.

هذا "العار" المرتبط بالاستمناء تجلى في تلك الفضيحة التي طالت السياسي النيوزلندي شين جونز، والذي تبين أنه كان يستخدم بطاقة الصراف الآلي الخاصة بالعمل لشراء أفلام إباحية عبر الإنترنت، حيث كان الأمر المشين في ذلك، كما ظهر في الصحافة"، هو أنه كان على الأغلب يمارس الاستمناء أيضًا، وهو ما ظهر بعناوين صحافية عديدة. ولعل الفضيحة كانت ستكون أهون لو أن ذلك النائب استخدم المال العام مثلًا لمواعدة بائعة هوىً ليمارس معها الجنس بشكل "طبيعي".

وليس ثمة أيضًا إجماع على فائدة الاستمناء ومنفعته للجسد أو للنفس، رغم أنه من ضمن ما يوصي به الكثير من الأطباء والمختصين النفسيين. فبعض من ينتقد الاستمناء كوسيلة علاجية يرى أن ممارسة الاستمناء قد تعزز الرغبة في الحصول على اللذة الذاتية مما قد ينجم عنه نوع من الأنانية الجنسية بدلًا من أن يؤدي إلى تحفيز العاطفة الجنسية وحب المشاركة. والعجيب أن الدعوات المناهضة للاستمناء، والتي بدأت من أرضية دينية تاريخيًا، صارت الآن تنطلق من أرضية إنسانوية، حيث ينزعج الكثيرون من الجنس الفردي/الاستمناء لمجرد أنّه فعل فرديّ وأنانيّ. ربما يتعلق الأمر أيضًا بالنظر إلى الاستمناء كأنه فعل ينطوي على خيانة وشهوة أنانية ومثلية، بالرغم ما يمثله كجزء من المتعة الجنسية للبشر.

ليس ثمة إجماع على فائدة الاستمناء ومنفعته للجسد أو للنفس، رغم أنه من ضمن ما يوصي به الكثير من الأطباء والمختصين النفسيين

لقد برزت قضية الاستمناء بوصفها مشكلة في بدايات القرن الثامن عشر في أوروبا، مع النهوض الثقافي للخيال في عالم الفن والأدب، ومستقبل التجارة اللامحدود، إضافة إلى دور الثقافة المطبوعة وانتشار القراءة كفعل فردي صامت، ولاسيما قراءة الرواية، وما ينطوي عليه ذلك من حريّة وانطلاق للخيال. لقد كان الأمر يتعلق بالوحدة، وفرط الشهوة، وجموح الخيال، والمتعة وشيوعها باعتبارها سمات شيطانية للحضارة البرجوازية الصاعدة.

وفي عصرنا الحاضر، حيث الوعي باللذة والمتعة على أشدّه، باتت الكفة ترجح نحو الرضا عن الذات وتلبية نزواتها، ولاسيما مع ترسّخ فكرة الاستقلالية الشخصية وحرية الجسد وسلعنة الجنس وتفشي الإدمان وسيطرة الإنترنت، حيث يستدعي كل ذلك خوفًا معقولًا من السعي المحموم وراء الفنطزات الجنسية.

هكذا يتبين لنا إذًا أن اعتراضات من سبقونا على عادة الاستمناء وإمتاع الذات بالذات ليست بعيدة عن التحفظ السائد في عصرنا الحاضر تجاه هذه الممارسة والخوف من تلك اللذة الذاتية اللامحدودة والجامحة.