05-يوليو-2022
كتاب "يوميات الحرب"

كتاب "يوميات الحرب"

في كل مرة أهمّ فيها بقراءة نص ذي صلة بالحرب، ولا سيما الحرب السورية، أشعر بشيء من التوجّس. ذلك أن الكثير من نصوص الحرب تميل إلى المبالغة والتهويل، بل والتحريض، ومحاولة شيطنة طرف والرفع من شأن طرف آخر. وفوق ذلك، كثير من تلك الكتابات تقع فريسة اصطناع بطولة مفتقدة، فيصور كاتب النص، أو كاتبته، الأمور البطولية التي قاما بها أو شهدا عليها. ويضاف إلى التوجّس هذا، توجّس آخر ذو صلة بالكتابة عن الحرب بالمطلق، فالبشرية منذ أن ظهرت على هذه الأرض وهي تخوض الحروب والصراعات، ومنذ ذلك الوقت وهي تكتب عن الحرب، ملاحم وقصائد وروايات ومذكرات، فأي جديد سيضيفه هذا النصّ الذي أمامك؟ أية زاوية ستنظر منها عين هذه الكاتبة إلى ما يجري؟ وما القيمة المضافة التي سيحملها النص الذي تهمّ بقراءته؟ وثمّة قلق آخر يتعلق بالكتابة عن أشياء واقعية، أشياء يعيشها المرء، ومن ثمّ يحتاج من يكتب عنها إلى درجة عالية من المهارة والذكاء وفرادة الرؤية ليقدّم لك ما تعرفه وما عشته، أو تعيشه، على نحو يحقق معادلة الكتابة الأدبية التي تجعلك ترى ما رأيت بعين أخرى، أو ترفع اليومي والعادي إلى مستوى التأمل العام بمصيرك أو مصائر البشر.

الكثير من نصوص الحرب تميل إلى المبالغة والتهويل، بل والتحريض، ومحاولة شيطنة طرف والرفع من شأن طرف آخر

 

كان كل هذا حاضرًا في ذهني حين بدأت بقراءة كتاب "يوميات الحرب" لآنّا عكّاش. لكن آنّا لا تكتب الحرب، بل تكتب الناس والمدينة وتلك التحولات التي تجري على كل منهما. وتكتب بضمير الـ "أنا" وبالزمن المضارع، كأنها تقول لك: هذه أنا، آنّا عكّاش، الآن وهنا، وهذا ما رأيته، هذا ما عشته. بعينين أشبه بعدسة كاميرا مصوّر، تلتقط التفاصيل، التفاصيل التي تعرفها أنت، وتجعلك تراها مرة أخرى كما لو أنك تكتشفها للمرة الأولى، وتقول في نفسك: لقد رأيت كل ذلك وعشته أيضًا! وتضبط نفسك متأملًا: كم يتشابه البشر!

وتعرفُ وأنتَ تسير بعينيك على كلمات النص، أنكَ سرتَ بقدميك على تلك الأماكن. شجرة الكينا التي قُطعت، أنتَ اتخذتها ذات يوم نقطة علّام لتعرف طريقك في حارات المدينة القديمة المتعرجة. أنتَ أيضًا كنت تعرّج على سبيل الماء في التكية السليمانية لتغسل يديك ووجهك وتشرب قليلًا من الماء البارد. أنتَ أيضًا جلست في مكان ما بالقرب من بركة الماء وسط التكية، وربما ألقيت بشيء من الخبز أو بقايا سندويتشة للبط والإوز السابح فيها. ولذا، أنتَ في "اليوميات" لستَ مجرّد قارئ، أنتَ شاهدٌ، وأنت موضوعها، وأنت شخصياتها. أنتَ ذلك العائد إلى بيته في ذروة الازدحام الذي يحشره السائق في المقعد، ليتسع لراكب آخر. وأنت ذلك الغاضب نتيجة موقفٍ ما لكنك لا تجرؤ على الكلام. وأنت ذلك الذي يتبادل أحاديث وديّة في الشارع مع أشخاص لا تعرفهم. وقد تكون ذلك الراكض نحو مكان سقوط قذيفة لأنها سقطت قرب مدرسة ابنك أو في باحتها.   

وستضبط نفسك متورطًا في لعبة معرفة من هي صاحبة هذه "اليوميات". تراها تكتب عن دخولها إلى الكنيسة، فتقول لنفسك: هي مسيحية إذن! وتبدأ تهيئ نفسك لمعرفة كيف عاشت امرأة مسيحية هذه الحرب. لكنها سرعان ما تكشف لك كم أنتَ ساذج، لأنها بعد قليل ستدخل الجامع الأموي وتقرأ صلاة الغائب على أرواح من غابوا، وتدخل جوامع أخرى يقودها إليها فضول المعرفة وربما دوافع أخرى. فتصحّح لنفسك: هي مسلمة إذن! ولكنك حين تتوغّل أبعد في كتابتها ستعرف أنها عصيّة على هذه التصنيفات المسكينة، إنها امرأة-إنسان في زمن رجراج، ترصد التفاصيل والتحوّلات والبشر، بمزيج من الحنين والخوف والقلق والسخرية والمرح...

وربما تكتشف أنها مثلك تحزن على فراق من سافروا وتفرح لهم في الآن ذاته، وتخاف على من بقي، وتبقى، كما لو أنها "ناطورة المفاتيح". وهي لا تخجلُ من مصارحتك بمشاعرها المتضاربة حول هذه البلاد التي تقدّم لك كل أسباب الرحيل، فلماذا لا ترحل؟ وفيها كل ما يجعلك متمسكًا بالبقاء، وأنت تعرف أنك ستنزف ببطء روحك وصبرك. لكأنها تستحضر صوت الشاعر الذي صرخ ذات يوم: "هنا لنا ماضٍ وحاضر ومستقبل!"

وستكتشف أنك لم تشترك معها في التفاصيل الدمشقية وسماع أصوات القذائف، بل وفي بعض تفاصيل الطفولة أيضًا، حين كانت "الطبقة" مدينة ناشئة تستقطب بشرًا من جميع أنحاء البلد. وتتساءل في نفسك: ربما تشاركنا اللعب في الحدائق ذاتها أو السير في الشوارع ذاتها ولو بزمانين مختلفين، لكنّ تشارك أماكن الطفولة هو مصدر حنين دائم عند من تشاركوها.

لا تجعلك "يوميات" آنّا عكّاش تشعر ولو للحظة واحدة أنها كفّت عن رؤية البشر بوصفهم بشرًا، يحبون ويكرهون، يخافون ويضحّون، يتقاتلون على توافهٍ في لحظة ويرتفعون إلى مستوى النبلاء في لحظة

لا تجعلك "يوميات" آنّا عكّاش تشعر ولو للحظة واحدة أنها كفّت عن رؤية البشر بوصفهم بشرًا، يحبون ويكرهون، يخافون ويضحّون، يتقاتلون على توافهٍ في لحظة ويرتفعون إلى مستوى النبلاء في لحظة، ربما هذه هي طبيعة البشر، لا شرّ مطلق فيهم ولا خير مطلق. وتترك لك في كل لحظة الباب مفتوحًا لتفكر وتتأمل وتسأل. وهذا ما تفعله حين تكتب عن العسكري الذي يعطي ابنته الصغيرة البندقية لتحملها نائسة تحت وطأة ثقلها. لماذا جعلها تحمل البندقية؟ ألأن السلاح بات أمرًا عاديًا في حياتنا اليومية؟ ألأنه يحمل أغراضًا أخرى للبيت؟ ألأنه يريد أن يمنح ابنته ذلك الشعور بالتباهي الذي يشعر به الصغار حين يقلدون الكبار في ألعاب الحرب؟

هي لا تعطيك أجوبةً، بل تترك لخيالك أن يكمل اللعبة. وأظنها أتقنت لعبتها.