19-يوليو-2022
نقش هيروغليفي

نقش هيروغليفي

في لحظةِ تعامدِ عقارب ساعة الذروة، وفي لجة سجالاتنا اللغوية، قالتْ زميلتُنا في المجموعة بنبرةٍ مازحةٍ شابها بعضُ ملل، من أخترع القلمُ أساسًا، ليورطني بكتابة هذا التقرير؟! فأجبتها بثقةٍ وإعتدادٍ منقطعيّ النظير: السومريونَ طبعًا! حينما جابوا السهل بالوادِ، جامعين باقات القصب الشقراء من نوع أروندو دوناكسي (Arundo donaxi) التي تشّربتْ حنانَ الرافدين والأهوار. فما كان من سيقانِ القصبِ لمّا قطعوها إلّا أن ألهمتهم كتابة أول قصيدة حبٍّ في مدينة نيبور (نيفّار)، قرابة الألف الثالث قبل الميلاد.

أولُ قلمٍ على وجهِ البسيطة صُنِعَ من قصب ما بين النهرين في مدينة أوروك السومرية. حيثُ خطَ الكتابة المسمارية برهافةٍ على ألواح الطين الطرية لأولِ مرةٍ حوالي 3200 قبل الميلاد

اعترضَ سبيلَ هديري التاريخيّ زميلُنا السوري من خلف شاشة حاسوبه قائلًا: بل هم أجدادي من ولّدوا الأبجدية الأورغاريتية من رحمِ أوغاريت، وأطلقوها كطفلة تحبوا في أصقاع الأرضِ منشدةً باقي الأبجديات بعفوية. كان يبدو متأكدًا مما يقول، فقابلته بتعجّبٍ مشكك، ولحسم الموقف لجأتُ الى الشبكة العنكبوتية لإيجاد كلمة الفصل بين رهانينا. وفي حقيقة الأمرِ كانتْ هناك مجموعة كبيرة من الرهانات غير المعلنة، فللصديقة المغربية رأيٌ مغاير تمامًا. وذاك المصريُّ الجالس على الطاولة المجاورة، تئزُ الهيروغليفيةُ بغضب بين شفتيه. بينما جاهرتْ عيونُ الصديقةِ اليابانية برفض مجادل بحقائق أكثر مما أفصحَ بها لسانُها، مشددة على ثِقَلِ كفةِ اللغة اليابانية، برغم أنها تعود للقرن الثامن الميلادي فقط، إلا أنّ ثراءها الفاحش بالرموز والتعقيد والمائة وسبعة وعشرينَ مليون لسانًا الناطقينَ بها حول العالم يضمنُ لها مكانة مهيبة، وتسترسلُ بالشرحِ لنا صديقتنا عن نظاميّ اللغة اليابانية القديمة الكانا والكانجي الزاخر بأربعين ألف حرف! وكيف أن الولايات المتحدة تدخّلتْ مستنكرة، فنجحتْ بتقليص نظام الكانجي إلى ما ينوف على ألفي حرف!

وهكذا كانتْ الأجواءُ مشحونة بالحقائق المتخمة بعاطفة أصحابها، وهناك أراءٌ مشابهةٌ لدى الزملاء كلٌّ من الصومالية، الفنلندية، الأرتيري، الروماني، الهندية. الأمرُ الذي دفعَ سؤالًا ليتسللَ عِبرَ تلافيفِ دِماغي هامسًا: أهذهِ وطنيةٌ مفرطةُ العفوية عمياء، أم عنصرية مع سبق الإصرارِ والترصدِ؟! ومَن يا تُرى غرسَ بذورها فيّنا وغذّاها؟

وبمعزلٍ عن العاطفةِ المتعنصرةِ والعنصرية المتعاطفةِ وحتى الوطنيةِ اللاذعةِ المطهوة على نار هادئة لمرجل الغربة، فأولُ قلمٍ على وجهِ البسيطة صُنِعَ من قصب ما بين النهرين في مدينة أوروك السومرية. حيثُ خطَ الكتابة المسمارية برهافةٍ على ألواح الطين الطرية لأولِ مرةٍ حوالي 3200 قبل الميلاد، وهناكَ من المؤرخين من يُرَجّح مولدها الى أبعد من ذلك الى حوالي الألف الخامسِ قبل الميلاد. وتعدُ مسماريةُ وادي الرافدين وهيروغليفيةُ وادي النيل الناشئة بتقاربٍ زمني معها أولى الكتابات الصورية، ولكن كنظام أبجديٍّ متوافق فتعتبر الأبجديةُ الفينيقيةُ هي الأولى، حيثُ سطرتْ إثني وعشرين حرفًا ساكنًا (إذ لم تتضمن أحرف علة) من اليمين الى اليسار في مدينة أوغاريت في وقت لاحق ما بين 1850 و1700 قبل الميلاد.

وهكذا سومرٌ ومِصْرٌ وشامُ، لا فرقَ فكلّهنَ أمكنةٌ بأزمنةٍ خلتْ، اجتهد أهلُها سعيًا للخلودِ فحققوه. أَمّا نحنُ بصفتِنا نسلُهم فلا فضلَ لنا ولا امتيازَ في شيء مما أنجزهُ الأسلافُ سوى، أننا نتبخترُ مثرثرينَ بتمجيد إرثٍ لم نُضف إليه قَشَةً بل حتى لم نصُنهُ، وركنّا الى الكسلِ متذرعينَ بمجد ماضٍ لم نصنعهُ بأدينا، وزعِمنا أَنّهُ ماضينا.

حُبّ البلادِ، تلكَ البلادُ التي تُدمينا ونأبى إلّا أن ننعجنَ بتراب أرضها، تلكَ الأرضُ التي تورَثُ كاللغةِ كما يقول محمود درويش

 

لا ضير في الوطنية ولو أنَّها باتتْ جريرةٌ يُحاسَبُ عليّها أصحابُها فيُقَتَّلونَ أو يُصلَّبونَ أو تُقَطَّعُ أيديَهم وأرجلَهم من خلافٍ أو أخيرًا يُنفَونَ منَ الأرضِ. ولكن الضَرر والضِرار من التطرفِ في الوطنية حد التعصب وتهميش الآخرين. وهنا يبرزُ دورُ المناهجِ الدراسية في تعبئةِ الأجيال. وتتجه أصابعُ الإتهامِ إلى كوادرِ واضعيّ المناهج، الذين يتّبعونَ بدورهم الأُطرَ السياسية التي يرسمها الحكام. فأيُّ مفارقةٍ تلكَ التي يدأبُ فيها الحكامُ على تغذية جياع وعراة الشعوب بالوطنية، بينما يستأثرونَ همُ بالتربع على موائد الوطن،ِ متناهشينَ مواردهُ بنهمٍ. ويقرعونَ كؤوسَهم فرحينَ بمغانمهم من جهة واستغفالهم للملايين من جهة أُخرى.

وهنا السؤالُ: على من يُلقي اللومُ بظلالهِ يا تُرى، أعلى السياسيينَ بمؤهلاتِهم المحدودةِ، وهم يتقافزون بمكرٍ على مسرحِ المشهدِ السياسيّ، بينما يؤدون مسرحيتهم الركيكة؟ أم على الشعوبِ التي تتعمدُ غضَ الطرفِ عن ما يدورُ أمامَ الكواليسِ في وَضَحِ النهارِ، مستعينةً على تجرّع تلكَ المسرحية السياسية الرخيصة بأفيوناتٍ سماوية أو أرضيةٍ شتى، كأفيون الدين وأساطير الكهنوتِ تارةً، أو أفيون الأيديولوجيات السياسية المختلفة تارةً، أو أفيون الوطنيةِ تارةً أخرى؟

ويبقى السؤالُ في بالِ الزهورِ والبَخورِ الراقدِ على شواهد القبورِ من غادرونا قرابينَ لأوطانهم وأوطاننا، ما السرُ في أكسير الحبِ هذا المُسمّى وطنيةُ وانتماءُ؟ حُبّ البلادِ، تلكَ البلادُ التي تُدمينا ونأبى إلّا أن ننعجنَ بتراب أرضها، تلكَ الأرضُ التي تورَثُ كاللغةِ كما يقول الشاعر محمود درويش.