بين مهرجانات السينما ومعارض الفن التشكيلي.. هل الموسيقى العربية مظلومة؟
21 سبتمبر 2025
تشكّل الموسيقى لغة مشتركة بين العرب أجمعين من مسقط إلى طنجة، ويكفي أن تدور في خلفية جلسة ما أغنية قديمة حتى يبدأ الحاضرون في هزّ رؤوسهم من نشوة الطرب والتمايل يمنى ويسرى على إيقاع النغمات.
قلوب العرب متعلقة باهتزاز الأوتار وصدى النغمات، فمن يُمكنه أن يحبس دموعه عندما تنشد أم كلثوم "يمنِي قلبي بالأفراح/وأرجع وقلبي كُله جِراح"؟ أو يكبت فرحته عندما يسمع فيروز وهي تغنّي: "نِحن والعصافير كُنا بالحي ندور/صوب الدكان نطير/حاملين غمار زهور"؟ أو لا ينجرف مع طاقة الشجن في صوت محمد عبد الوهاب وهو يطرب: "حِلم وصحيت منه/لقيتنا هايم في بحر الشوق وحدي"؟ هذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض لتأثير الموسيقى والطرب في وجدان العرب على اختلاف مشاربهم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الموسيقى العربية ظُلمت لسنواتٍ طويلة لأسباب عديدة.
من يطالع الساحة الثقافية/الفنية اليوم يمكنه ملاحظة عدد مهرجانات السينما المتزايد في محيطنا العربي، وهي ظاهرة محمودة بلا ريب. فقد ارتبطت أغلب المدن وخاصةً الساحلية بإقامة مهرجان سينمائي وفاعليات فنيّة. وقد أتاحت هذه المهرجانات فرصة سانحة للجمع بين العروض الحديثة وكذلك استعادة بعض الأفلام القديمة عبر الترميم أو إقامة معرض فنّي يتصل بها. كما أنها حاولت قدر المستطاع الحِفاظ على الإرث السينمائي لأبرز الوجوه السينمائية من ممثلين وممثلات ومخرجين وكُتّاب سيناريو ومهندسي ديكور، من خلال توثيق سيرتهم وقوائم أعمالهم عبر مطبوعاتٍ ورقية أو رقمية.
لا يتخلف الأمر كثيرًا في حالة المسرح، والذي تنوّعت المهرجانات المرتبطة به في الفترة الأخيرة. أما الفن التشكيلي فقد حظي بمساحة اهتمامٍ لا بأس بها، فيكفي أن يقوم القارئ بعمل بحث عشوائي على محركات البحث حول المطبوعات الخاصة بالرسّامين والرسّامات، فتنهال عليه مجموعة متنوعة ثريّة من المطبوعات القيّمة الجذّابة المعنية بهؤلاء الفنانين. ناهيكم عن المعارض الأنيقة التي تُقام هُنا وهُناك لأبرز الفنانين المعاصرين أو الراحلين. وقد أدى هذا التراكم المعرفي تجاه الفنانين عبر سنوات إلى الحِفاظ بقدر المستطاع على سيرتهم الفنية وتوثيق أغلب أعمالهم الفنية حتى لا يطالها الإهمال.
من يطالع الساحة الثقافية/الفنية اليوم يمكنه ملاحظة عدد مهرجانات السينما المتزايد في محيطنا العربي، وهي ظاهرة محمودة بلا ريب. فقد ارتبطت أغلب المدن وخاصةً الساحلية بإقامة مهرجان سينمائي وفاعليات فنيّة
أما في حالة الموسيقى العربية، فيبدو الأمر غريبًا بعض الشيء. فأغلب ما يُطرح اليوم هي فاعليات ترفيهية أو حفلات تجارية لا تتصل على نحو وثيق بحركية الموسيقى العربية وتاريخها العريق. نعم، يوجد مهرجان للموسيقى العربية في القاهرة يُقام سنويًّا في أواخر كل عام، لكن هل هذا يكفي للحِفاظ على هذا الإرث الضخم والتفاعل معه؟ وقد كان لهذا المهرجان الذي أُطلقت نسخته الأولى تحت عنوان "مؤتمر الموسيقى العربية" بالقاهرة عام 1932، هدف مشكور ألا وهو الحِفاظ على إرث الموسيقى العربية ووضع قواعد منهجية محددة لضمان عدم العبث به مع التطلع إلى مستقبل أفضل.
عبر هذه السنوات المديدة، لم يطرح المهرجان مشروعًا واضحًا صوب توثيق سيرة الفنانين الكبار والموسيقيين سواء في مطبوعاتٍ ورقيّة أو أقراص مدمجة! أغلب الإصدارات هي عبارة عن نشراتٍ مُبسّطة وكُتيبات صغيرة تُطرح أثناء انعقاد جلساته أو حلقاته البحثية. فكان من الضروري أن يأخذ هذا المهرجان على عاتقه مهمة توثيق هذا الإرث الفني الضخم وتقديم أعمال مطبوعة في صيغة عصرية أنيقة تواكب مقتضيات العصر. ولا ينكر أحد الدور الذي لعبه هذا المهرجان في التعاطي مع أفكار موسيقانا العربية من خلال بعض الحلقات البحثية أو الندوات النقاشيّة، إلا أن ذلك أثمر في النهاية عن مطبوعاتٍ تضم الأبحاث الأكاديمية الرصينة التي طُرحت في حلقاته عبر سنوات. فالمتذوق البسيط، كان في أمسّ الحاجة إلى أن تُقدم له هذه الأفكار والمعلومات بأسلوب مُبسّط وجذاب من قِبل المختصّين.
يتضح مع مرور الوقت أنّ مشكلة الموسيقى العربية لا تقتصر على المهرجانات الفنية والتي يُمكن حصر عددها على أصابع اليد الواحدة، بل كذلك في المؤسسات الرسمية المعنية بتوثيق ورقمنة هذا الإرث. وإذا أخذنا على سبيل المِثال لا الحصر المجمع العربي للموسيقى، نجد أن اصداراته من الكُتب لم تُرقمَن حتى يومنا. وحتى لا نظلم أحدًا، فإن هناك بعض الجهود الفردية أو الخاصة التي نشطت في السنوات الماضية وعملت على رقمنة آلاف التسجيلات الصوتية والأسطوانات الحجرية وطرحها في ثوب بصري معاصر.
ليس صحيحًا أن أغلب جمهور الشباب في هذه الأيام قد انصرف عن الموسيقى العربية الأصلية، والدليل على ذلك هو تزايد عدد الكُتب والمطبوعات المعنية بالموسيقى والغناء العربي والتي أنجزها شباب شغوف في الفترة الأخيرة، ناهيكم عن الصفحات المختصّة التي أنشأها هُواة على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل توثيق المطبوعات الموسيقية أو التسجيلات النادرة وكذلك الأرشيف والصور. صحيح أن لكل مؤسسة موسيقية قومية الحق في الحفاظ على الفلكلور الغنائي والموسيقي الخاص بشعبها، لكن يظل هناك عبء أكبر يقع على عاتقها ألا وهو المساهمة في تدعيم الموسيقى العربية والحِفاظ على جمالياتها وتاريخها المديد.
إننا في حاجةٍ مُلّحة إلى وجود مهرجاناتٍ موسيقية متنوعة وعديدة في عالمنا العربي؛ نستطيع من خلالها أن نعرف المزيد عن أعلام الموسيقى العربية ونحتفظ بإرثهم الثري، بل ونعيد اكتشاف أسماء جديدة لم نكن نعرفها من قبل والأهم من كل ذلك أن نعقد حلقة اتصال فعّالة بين الجيل الحالي والرواد. ولا نظن أن مسألة فُقدان التواصل مع ماضينا والاستخفاف أيضًا بالأصوات الجيّدة في عصرنا هي مسألة صحيّة. فإذا كانت السينما تحظى بعروضٍ جديدة ومهرجانات وفاعلياتٍ قائمة وكذلك الأمر فيما يخصّ المسرح والفن التشكيلي، فإن الموسيقى العربية من حقها أن تحظى باهتمامٍ مماثل.