27-أبريل-2025
شعارات مؤيدة للمقاومة كُتبت على أنقاض أحد البيوت المهدمة شمال غزة (فاطمة حسونة)

شعارات مؤيدة للمقاومة كُتبت على أنقاض أحد البيوت المهدمة شمال غزة (فاطمة حسونة)

تكشف الحرب الوحشية التي يشنّها الاحتلال، منذ أكثر من عام ونصف، عن نكبةٍ جديدة تتكرّر على أرض غزة، نكبة تجاوزت في فظاعتها كل الحدود، ما يجعل من غير الممكن الاستمرار في التعامل مع هذا العدوان بوصفه مجرد فصل آخر من فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ما يحدث يتجاوز، حدود الوحشيّة التي يمكن لعقل إنسان أن يستوعبها، لقد تحولت آلة الحرب الإسرائيلية إلى أداة إبادة جماعية وسط دعم غربي غير مشروط وتخاذل عربي يدفع للتساؤل، وصمت دولي مريب يفضح التواطؤ على الضعفاء.

لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة، بل غدت اختبارًا أخلاقيًا للإنسانية، ومرآة تعكس نفاق المجتمع الدولي وعجزه عن وقف المجازر المرتكبة على مرأى ومسمع من العالم. وفي حين تبقى مواثيق جنيف، والشرعية الدولية لحقوق الإنسان، والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة مجرد نصوص جامدة لا يُحتكم إليها، تمضي آلة الحرب في تطهير عرقي وإبادة شعبٍ بأكمله في وضح النهار.

أما ما يتعلق بمجلس الأمن ، الذي يفترض أن يكون حارسًا للسلم والأمن الدوليين، فقد أثبت فشله الذريع وعجزه عن إصدار بيان إدانة يرقى إلى مستوى الجريمة، فيما تواصل أنظمة عربية الصمت، أو التبرير، ساعية لتقليل من تكلفة الموقف السياسي أمام حلفائها في واشنطن وتل أبيب.

وأمام هذا الجنون الصهيوني الذي لا يعلم أحد متى ولا كيف سينتهي، ترتفع أصوات فلسطينية من تحت الركام، تناشد العالم وتصرخ في وجه صمته، لكن بلا صدى.

عداء أيديولوجي أو موقف أخلاقي؟

في خضم هذه الفوضى، يبرز مشهد آخر لا يقلّ خطورة، يتمثّل في انقسام النخب العربية، ليس فقط حول توصيف العدوان، بل حول مشروعية المقاومة نفسها. فقد انشغل بعض المثقفين العرب، على الشاشات وصفحات الجرائد ومنصات التواصل، بمهاجمة المقاومة وتحميلها مسؤولية ما يجري، في مشهد عبثي يُجرّد الضحية من حقّها الطبيعي في الدفاع عن نفسها، وهو حقٌّ تكفله القوانين الدولية.

وفي حين تواصل إسرائيل تدمير المستشفيات واستهداف مدارس الأونروا ومراكز الإيواء، تتكاثف الأقلام للحديث عن أخطاء حركة حماس، وكأنّ المقاومة من تمارس التطهير العرقي تحت أنظار العالم.

المفارقة أن كثيرًا من المثقفين الغربيين قد اتخذوا مواقف أكثر شجاعةً وأخلاقًا من نظرائهم العرب، الذين يُفترض أن يكونوا في طليعة المدافعين عن حق الفلسطينيين في التحرر

يخفف بعض المثقفين العرب من عبء إدانة إسرائيل، فيما تبنّى آخرون سردية الاحتلال، في خطابٍ متناغم معها، يقرّ بشكلٍ ضمنيّ بإعفاء المحتل من الإدانة. ويكرّرون مزاعمه حول "حق الدفاع عن النفس"، ويطالبون بنزع سلاح المقاومة، وتفكيكها، وإعلان الهزيمة في قطاع غزة، وكأنّ المطلوب من الفلسطينيين هو اختيار نوع موتهم، لا الدفاع عن حقهم في الحياة.

 لا يمكن قراءة هذا الانزلاق في الخطاب إلا بوصفه تعبيرًا عن أزمة أعمق؛ أزمة في فهم دور المثقف وفي تعريفه للمسؤولية الأخلاقية، لقد تحول بعض المثقفين إلى مجرد محللين سياسيين محايدين، أو إلى أدوات لتصفية حسابات ايديولوجية مع تيارات الإسلام السياسي، متناسين أن وظيفة المثقف – قبل كلّ شيء- هي الانحياز إلى المظلومين لا محاكمتهم.

لقد وجد بعض المثقفين في انتقاد حماس مخرجًا نفسيًّا يعفيهم من مواجهة الاحتلال. ويمنحهم شرعية زائفة بالحديث عن " الموضوعية " و"التوازن"، لكن الحقيقة أن التوازن في زمن المجازر ليس بخطاب عقلاني، بل جريمة، وأن الصمت أو الإدانة الخجولة أو المواربة لا تقل خطورة عن التبرير العلني لجرائم الاحتلال.

وإذا كان الغرب قد تبنّى سردية الاحتلال ووصم المقاومة بـ"الإرهاب"، فإن بعض النخب العربية اختارت أن تعيد إنتاج هذا الخطاب بلغة محلية، تحت ذريعة النقد السياسي أو الأخلاقي. والمفارقة أن كثيرًا من المثقفين الغربيين قد اتخذوا مواقف أكثر شجاعةً وأخلاقًا من نظرائهم العرب، الذين يُفترض أن يكونوا في طليعة المدافعين عن حق الفلسطينيين في التحرر.

 هل تحتاج إسرائيل إلى ذرائع؟

تملك إسرائيل مشروعًا استراتيجيًا منذ عقود، رغبتها في إقامة "دولتها الكبرى"، والسيطرة على القدس، وتوسيع الاستيطان في الضفة والجولان، وعزل غزة، كلها خطوات كانت تنتظر لحظة حاسمة. لم تكن حكومة نتنياهو المتطرفة بحاجة إلى ذريعة، بل إلى توقيت مناسب، ولو سلمنا أن إسرائيل كانت تحتاج إلى ذريعة فعًلا، ألم يكن الأجدر أن تكون عملياتها محدودة ومركزة على المقاومة فقط. بيد أن عدوانها في غزة صُنّف على أنه إبادة جماعية، وتهجير قسري لأكثر من مليوني فلسطيني، وتدمير ممنهج للبنية التحتية.

في الواقع، تُجيد إسرائيل تلفيق الذرائع؛ فقد فعلت الأمر نفسه عند أسر جنود إسرائيليين، لتعلن بعدها الحرب على لبنان عام 2006، ثم على غزة عام 2008. وحتى إذا سلّمنا جدلًا بأن ذرائع إسرائيل "صادقة" وأنها تسعى فقط لحماية أمنها، وتغاضينا عن الخروقات اليومية التي ترتكبها ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، فبأي ذريعة يمكن تفسير اعتداءاتها المتكررة على الأراضي السورية وقصفها للسوريين؟ فهل بقي ما يبرّر المكابرة أمام خطط تعترف إسرائيل نفسها بأنها لن تخرج من غزة قبل تحقيقها؟

حان الوقت لإعادة تعريف دور المثقف، ليس بوصفه مُنظّرًا على هامش المجازر، بل فاعلًا في قلب المعركة من أجل الحقيقة والكرامة. لا يُقاس المثقف بقدرته على التحليل فحسب، بل بقدرته على الانحياز للحق. ففي زمنٍ تشوَّشت فيه الصورة وتعاظم فيه الانقسام، يصبح الصوت الواضح في مواقفه الأخلاقية ضرورةً لا ترفًا فكريًا.

إن المقاومة الفلسطينية – سواء حظيت بإجماع أو بإعجاب البعض أو لم تحظَ – هي فعل تحرري مشروع، تكفله وتؤيده القوانين الدولية، وتُبرّره عقود من الاحتلال الممنهج. وهي ليست مجرد خيار سياسي، بل ضرورة وجودية لشعب تُسحق كرامته يوميًا، ويُحرَم من أبسط حقوقه في العيش الكريم. أما المثقف الذي لا يرى ذلك، أو يرفض الاعتراف به، فإنه يُساهم – عن قصد أو عن جهل – في شرعنة الاحتلال.

المثقف بين الامتحان الأخلاقي ومرايا التاريخ

ليس هناك من يطالب بمنح صك براءة لحركة حماس أو لغيرها، لكن العدالة لا تتحقّق بإدانة من يقاوم، بل بمحاسبة من يحتلّ ويقتل ويدمّر. لقد تحوّلت بعض النقاشات حول المقاومة إلى غطاء وذريعة لإسكات الصوت الفلسطيني، وإعادة إنتاج الخطاب الصهيوني بلغات مختلفة. وإذا كنّا نطالب بوقف الحرب، ورفع الحصار، وحماية المدنيين، فإن أول ما نحتاج إليه هو خطاب أخلاقي واضح في توصيفاته، لا يتردّد في تسمية الأشياء بمسمياتها: إسرائيل مجرمة، والغرب متواطئ، والعرب صامتون، أما المثقفون فإما غائبون أو مشاركون.

وفي زمن تختلط فيه الروايات وتُشوَّه الحقائق، لا يكون دور المثقف رفاهية نظرية ولا ترفًا لغويًا، بل مسؤولية أخلاقية تُقاس بقدرته على تسمية الأشياء بأسمائها، والانحياز للحق مهما علا صوت القوة. فالتاريخ لا يرحم، ولن يُسجّل أسماء الذين ترددوا باسم الحياد، بل أولئك الذين امتلكوا شجاعة قول الحقيقة في زمن الكذب الجماعي. ومن يعجز عن التمييز بين الضحية والجلاد، لا يستحق أن يُسمى مثقفًا، بل مجرد صدى باهت لصوت السلطة والظلم.