24-يوليو-2017

لقطة من فيلم رد قلبي

 تكررت مسألة تشكيل تنظيم "الضباط الأحرار" بنفس المعالجة في فيلم "رد قلبي" لعز الدين ذو الفقار. فرغم أن النص الأصلي للفيلم، الذي كتبه الضابط يوسف السباعي،  أعطى للواء محمد نجيب حقه كرجل جيش ذو منصب كبير صدّره "الضباط الأحرار" كقائد للثورة؛ فإن الفيلم الذي عُرض عام 1957، بعد الإطاحة بنجيب، أسقط هذا الجانب تمامًا، ونسب الفضل كله لضباط آخرين، من بينهم عبد الناصر.

حاول "رد قلبي" تقديم خلطة شعبية يمتزج فيها الحب والسياسة بالوطنية والثورة وصراع الطبقات

وقد تبنّى "رد قلبي" السردية ذاتها التي قادت إلى الثورة، فالبطل الضابط الشاب علي (شكري سرحان) يشترك في حرب فلسطين، ويعود بعد الهزيمة ليجد مظاهر السخط والتمرد تزداد انتشارًا بين أفراد الجيش، بفضل مجهودات "الضباط الأحرار" ومنشوراتهم.

ويربط الفيلم، بطريقته، بين أحداث عديدة شهدتها مصر في تلك الفترة وبين حياة بطله، ليمدّ الخيط حتى لحظة إعلان أنور السادات بيان الثورة في الإذاعة المصرية. وهكذا، اعتمد الفيلم على أسطورة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين، وأتبعها بحريق القاهرة الذي يحاصر راقصة ارتبط بها علي، وبعد هذا الحادث ينضم علي إلى تنظيم "الضباط الأحرار"، ويجتمعون في مشهد مهيب للقسم على التعاون معًا لإبعاد الملك عن الحكم.

اقرأ/ي أيضًا: إعادة نظر: فيلم"تحقيق عن الجنة".. السؤال النسوي حينما يكون لصالح المجتمع

حاول "رد قلبي" تقديم خلطة شعبية يمتزج فيها الحب والسياسة بالوطنية والثورة وصراع الطبقات، فهناك قصة حب يائسة يتابعها المشاهدون منذ بدايتها الطفولية، بين أميرة جميلة (مريم فخر الدين) ابنة أحد الباشاوات ذوي النفوذ السياسي، وبين علي ابن جنايني الباشا، في مجتمع لا يقرأ مثل هذه العلاقات بين طرفين بينهما هوة شاسعة في السينما.

أكثر من هذا، أن الرواية والفيلم جعلا من علي واحدًا من دفعة الكلية الحربية لعام 1938، التي ضمت بين صفوفها عبد الناصر وغيره من الضباط الشباب الذين اشتركوا في حرب فلسطين، ليعودوا بعد ذلك وينجحوا في "ثورتهم" وإزاحة الملك، ومن ورائه أسرة الحبيبة الأرستقراطية، وهكذا تنقلب موازين القوى لصالح علي الذي يصبح في السلطة وتصبح إنجي وأسرتها من أعداء الثورة ويُجرّدون من ممتلكاتهم وأراضيهم، لكن الحب بوصفة سحرية يتجاوز كل الأحقاد ويتزوج البطلان وتكون النهاية السعيدة!

ويبدو أن السينما المصرية قررت أن تتوقف لفترة عن إنجاز أفلام مباشرة عن الثورة، ربما لأن فيلمي "الله معنا" و"رد قلبي" قد استنفدا غرضًا مهمًا بالدعاية للثورة، وظلت الساحة خالية من فيلم مماثل القوة والتوليفة، حتى قدّم كمال الشيخ فيلمه "غروب وشروق" عام 1970، وهو فيلم من تأليف واحد من ضباط الثورة هو جمال حمّاد.

لكن  السينما لم تتوقف قبل هذا التاريخ عن تناول قضايا الثورة والتمرد على الطغيان بدرجات مختلفة، وبدا ذلك بشكل واضح في أفلام تتناول حقبًا تاريخية في أحداثها، ومنها على سبيل المثال "المماليك" لعاطف سالم 1965، و"تنابلة السلطان" لكمال الشيخ في نفس العام، و"ثورة اليمن" لعاطف سالم عام 1966، و"أمير الدهاء" لهنري بركات و"ثمن الحرية" لنور الدمرداش، أو في توثيق ثورة شعب عربي آخر، كما في "جميلة" ليوسف شاهين 1958 و"أميرة العرب" لنيازي مصطفى.

السينما المصرية قررت أن تتوقف لفترة عن إنجاز أفلام مباشرة عن ثورة يوليو، ربما لأن فيلمي "الله معنا" و"رد قلبي" قد فعلا المطلوب

هذه الأفلام لم تتحدث عن ثورة 23 يوليو بالتحديد، ولكنها مجّدت فكرة الثورة والانقلاب على الطغيان بمعناها العام. والملاحظ أن هذه الأفلام جميعها اشتركت في خطاب يؤصّل للثورة كعمل ليس شعبيًا بقدر ما هو تمرد فردي، يقوم به شخص تعاونه مجموعة صغيرة مخلصة (بصورة شبيهة لتنظيم "الضباط الأحرار")، بينما يبدو الشعب نفسه بعيدًا عن الأحداث.

وفي اتجاه مختلف قليلًا سارت أفلام مثل "فجر يوم جديد" ليوسف شاهين 1965 و"السمان والخريف" لحسام الدين مصطفى 1962، حيث حاول  شاهين في فيلمه، الذي ظهر بعد تطبيق القرارات الاشتراكية بثلاث سنوات، تقديم رؤية جريئة لقصة أسرة من أصول إقطاعية أنهكتها قرارات تموز/يوليو 1961 وعجزت عن التكيف مع الواقع الجديد.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "آخر أيام المدينة".. القاهرة الأم والبطلة المتعبة

بطلة "فجر يوم جديد" سيدة أرستقراطية (سناء جميل) أضيرت بإصلاحات الثورة لكنها تواصل حياتها المعتادة الحافلة بالبذخ والإسراف، وهي على علاقة بطالب شاب مؤمن بالثورة ومنتمِ لها، يفتح عينيها تدريجيًا على الحقائق الجديدة.

ولم يلق الفيلم نجاحًا جماهيريًا ولا نقديًا، مما أثّر كثيرًا في نفس يوسف شاهين الذي قال "أردت التعبير عن مصر المولودة بعد القرارات الاشتراكية، وكنت مهتمًا بها وأدركها تمامًا، ومصر القديمة التي تحاول إجهاض التجربة وتدمير كل شيء. وأحسست أنني كمن يؤذن في مالطة"، فكان قراره بالهجرة بعد شعوره بأن "الاشتراكية التي نحلم بها عندما تحققت تحوّلت إلى بيروقراطية متسلّطة".

أما "السمان والخريف"، المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته لنجيب محفوظ، فهو رثاء حار لجيل من الثوار فقدوا بوصلة الطريق الصحيح، بعيدًا عن التشويه الذي ألحقه المخرج بالنصّ المحفوظي الأصلي. فبطل الفيلم، عيسى الدبّاغ (محمود مرسي)، وفدي قديم ضحّى بشبابه في سبيل الثورة ضد الاحتلال والقصر والفساد ودخل السجن مرات عديدة، ولكنه بعد صعوده مع حزبه الذي انتصر في الانتخابات، يبدأ سلوكه في الانحراف. يصبح مرتشيًا، ويحقق ثراءً ملحوظًا، وفجأة تحدث الثورة التي طالما حلم بها وبأهدافها، لكنه بدلًا من أن يلتحق بالثورة وصفوفها، يُحال إلى لجنة تطهير تحقّق معه وتدينه وتحيله إلى المعاش وهو في قمة عطائه، ليضيع في زوايا النسيان ويتابع والحسرة تنهشه قضايا وطنه الذي يخوض نضاله في الداخل والخارج.

فيلم "السمان والخريف"، المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته لنجيب محفوظ، هو رثاء حار لجيل من الثوار فقدوا بوصلة الطريق الصحيح

وكما نرى، فقد أصبحت الثورة موضوعًا سينمائيًا دائم التواجد في الأفلام المصرية بشكل مباشر، أو من الباب الخلفي، خصوصًا بعد انتباه السلطة إلى أهمية السينما كصناعة وفن له تأثيراته على وعي الجماهير (يكفي أن نذكر أن صناعة السينما المصرية قبل الثورة كانت تحتل المرتبة الثانية بعد القطن في الإيرادات التي تعود على الدخل القومي).

لذلك، سارعت السلطة في الستينات بتأميم صناعة السينما لصالح الحكومة، حيث تم تأميم بنك مصر بشركاته ومنها شركة مصر للتمثيل والسينما، بالإضافة إلى بعض شركات التوزيع السينمائي مثل الشروق ودولار فيلم. ذلك إلى جانب بعض الاستديوهات الكبرى مثل ستديو مصر والنحاس والأهرام وجلال.

ونتيجة لدخول الدولة مجال السينما أنشأت المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1962، لدعم أفلام تتفق مع سياة الدولة الجديدة، ومن هنا ظهرت أفلام تتناول مواضيعها إعلاء قيمة العمل والإشادة بالمجتمع الإشتراكي كفيلمي "اللص والكلاب" و"في بيتنا رجل".

ولم يتوقف ذلك التوجه على السينما وحسب، بل انعكس على الغناء، حيث أصبح عبد الحليم حافظ هو مطرب الثورة، وصار طبيعيًا أن نجد أغنيات لأم كلثوم وعبد الوهاب وشادية تمجّد "الزعيم" جمال عبد الناصر. نتيجة هذا المناخ السائد، بدا الحديث عن الثورة في السينما مكررًا، وكثرت الأفلام التي تتناول مظاهر الفساد في عهد ما قبل الثورة، خاصة حريق القاهرة، مثلما في "الباب المفتوح" لهنري بركات 1963 و"لا وقت للحب" لصلاح أبو سيف في العام ذاته.

لذلك، كان على السينما المدعومة من الدولة العثور على مداخل جديدة ومختلفة، فالثورة قد انتقلت إلى مناطق أخرى كالجزائر واليمن، وهنا بدأت تظهر أفلام تحاول إصباغ الوطنية والسياقات السياسية على أبطالها، كما في "سيد درويش" لأحمد بدرخان 1966.

اقرأ/ي أيضًا: بين فيلمي "معلمة البيانو" و"شيطان النيون".. أن يكون الجمال بداية للرعب

ثم جاءت هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 كصفعة قاسية على وجوه الجميع، بعد إدراكهم أن الحلم ينهار، ممثلًا في هزيمة المؤسسة العسكرية في سيناء وقبلها في اليمن، وصار على الوطن الجريح أن يجمع أشلاءه، وبدأت الأصوات السينمائية الناقدة للتجربة الناصرية في الظهور، وإن على استحياء شديد، في فيلمي "القضية 68" لصلاح أبو سيف و"المتمردون" لتوفيق صالح في العام التالي للهزيمة، و"شيء من الخوف" لحسين كمال و"ميرامار" لكمال الشيخ، وكلاهما عُرضا عام 1969.

في المقابل، سعت السلطة لاسترداد هيبتها واستعادة الإيمان بالثورة مرة أخرى، فقررت إنتاج فيلم على شاكلة "الله معنا" بل وأسندت إخراجه إلى نفس الاسم الذي انتقدها، كمال الشيخ، ومن هنا ظهر فيلم"غروب وشروق" في آذار/مارس 1970، أي قبل وفاة عبد الناصر بستة أشهر.

"غروب وشروق" إذن هو محاولة سينمائية لترميم صورة الثورة ووإحالة الجماهير إلى الفساد السياسي لحكام الملكية، ويكفي للتدليل على أهميته القول بأنه لا تمرّ مناسبة الاحتفال بذكرى الثورة دون أن يذيع التلفزيون المصري هذا الفيلم سنويًا.

والمثير أن هذا الفيلم يشترك مع فيلم "الله معنا" في أكثر من عنصر، فمحمود المليجي جسّد تقريبًا نفس شخصيته السابقة في "الله معنا"، وأيضًا حكاية الفيلمين تتمحور بالأساس حول شخصية سياسية نافذة تواجه المتاعب بسبب الابنة التي ترتبط عاطفيًا بأحد الضباط الناقمين سياسيًا.

يبدأ الفيلم أحداثه عقب حريق القاهرة في مطلع عام 1952، ويعرّفنا على عزمي باشا (محمود المليجى) رئيس البوليس السياسي وابنته المطلقة مديحة (سعاد حسني). الابنة طائشة وشهوانية وتسعي للتخلص من القيود المفروضة عليها من جانب والدها القوي، سرعان ما ستستغل وقوع طيار مدني شاب (إبراهيم خان) في حبها للزواج منه، هربًا من سطوة والدها.

اقرأ/ي أيضًا: إذا أعجبك "Dunkirk" فإليك 6 أفلام عظيمة عن الحرب العالمية الثانية

يستفيض سيناريو الفيلم في تقديم تفصيلات عن علاقات مديحة العاطفية، لينسج ميلودراما يروح فيها الزوج الشاب ضحية للتغطية على نزوات زوجته، بعد اكتشافه خيانتها له مع صديقه المقرب عصام (رشدي أباظة). يقتل الباشا الزوج، ويرغم صديقه على الزواج من ابنته تجنبًا للفضيحة، وهنا تبدأ الأحداث السياسية في سيادة الفيلم.

تتغيّر حياة الطيار العابث وينضم إلى تنظيم سري لضباط الجيش، رفقة الصديق الثالث (صلاح ذو الفقار)، ويستغل عصام وجوده بمنزل الباشا ليكشف جرائمه ويسقطه، بعد تمكنه من الحصول على مستندات تدينه بحريق القاهرة، بمساعدة بعض رجال البوليس السياسي المنتمين لذلك "التنظيم السري". وعندما تصل الوثائق السرية، في شكل منشورات، إلى الناس، ومنها إلى القصر، فإن السراي يطلب من عزمي باشا تقديم استقالته، ثم يقوم بإلقاء القبض عليه، بينما يستمر عصام في عمله مع التنظيم السري، إلى أن يتحرّر في النهاية وتغرب شمس العهد البائد كي تشرق شمس الثورة المباركة!

فيلم "غروب وشروق" هو محاولة سينمائية لترميم صورة ثورة يوليو وإحالة الجماهير إلى الفساد السياسي لحكام الملكية

والملاحظ هنا أن الفيلم لا يشير صراحة إلى "الضباط الأحرار"، ولا يحصر مهمة القيام بالثورة عليهم، فعصام ليس ضابط جيش، كما أن زميله الذي يعمل في البوليس السري ليس من الجيش، لكنه يساعده على إسقاط عزمي باشا.

لكن هذه التغيرات الشكلية لم تبعد فيلم "غروب وشروق" أن يكون طبعة ثانية معدّلة من "الله معنا" لتناسب الفترة الزمنية التي أنتج فيها. وبرحيل عبد الناصر، وتغير القيادة السياسية ومجيء أنور السادات بـما أسماه "ثورة التصحيح"؛ سيبدأ نوع جديد من الأفلام في الظهور، صانعًا لنفسه ثورته الخاصة، التي سترى في القديم (ثورة يوليو) وجوهًا سلبية عديدة، في "تويست" مماثل لما حاول عبد الناصر نفسه فعله مع عهد الملكية، بتصويره كعهد فساد وانحلال. حقًا التاريخ لا يتوقف عن اتحافنا بمفاجآته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"18 يوم".. فيلم متواضع أشعل في نفوس المصريين ذكرى الثورة والميدان

كلاسيكيات: فيلم "5 أصابع".. تجسس وكوميديا وأموال مزورة