بين خطة ترامب وردّ المقاومة: أي اتفاق نهائي حصل؟
9 أكتوبر 2025
في لحظة بدت كأنها نهايةُ حرب طويلة لا نهاية لها، أُعلن عن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بعد مفاوضاتٍ قادها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. غير أنّ هذا الاتفاق الذي وُصف بـ"اتفاق السلام" ما زال يلفّه الغموض من كل جانب. فقد تضمّنت خطة ترامب بنودًا صادمة تدعو إلى استسلام المقاومة، وتدمير بنيتها التحتية، وإخراجها من القطاع، على أن تُدار غزة من قبل "مجلس السلام" برئاسته شخصيًا.
لكنّ ردّ المقاومة الفلسطينية جاء بصيغةٍ مختلفة، إذ وافقت على وقف الحرب وتبادل الأسرى، واقترحت أن تتولى هيئة فلسطينية من المستقلين إدارة القطاع. وبين الخطة والرد، جاء الإعلان عن الاتفاق من دون توضيح الجهة التي شكّلت أساسه الفعلي.
ومن هنا تتزاحم الأسئلة: ما مصير المقاومة الفلسطينية؟ هل ستُسلّم سلاحها وتغادر غزة؟ من سيدير القطاع؟ وما مصير الأسرى الفلسطينيين أصحاب المحكوميات العالية مثل مروان البرغوثي وعبد الله البرغوثي وحسن سلامة وغيرهم؟
ما هو ثابتٌ حتى الآن هو التوصّل إلى اتفاق بشأن المرحلة الأولى من خطة ترامب، التي تشمل وقفًا لإطلاق النار، لم يُحدَّد موعد دخوله حيّز التنفيذ بعد، إضافةً إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى الخط المتفق عليه كخطوةٍ أولى. أما النقاط الأساسية والمصيرية، فما زالت غامضةً وغير محسومة، ما يعني أنّ الاتفاق ربما لم يتجاوز المرحلة الأولى بعد.
وهنا ينبغي التوقّف عند ماضٍ ليس ببعيد، إذ شهدت المفاوضات السابقة سيناريو مشابهًا، تمّ خلاله التوصّل إلى اتفاقٍ أوليٍّ لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، لكنّ إسرائيل سرعان ما استأنفت الحرب مجددًا، متذرّعةً بعدم التوصّل إلى اتفاقٍ بشأن المراحل اللاحقة.
الاتفاق الحالي يقتصر على المرحلة الأولى من خطة ترامب، ويتضمن وقفًا لإطلاق النار وإطلاق الأسرى وانسحابًا محدودًا للقوات الإسرائيلية، فيما تبقى القضايا الجوهرية غامضة ولم تُحسم بعد
غموض الاتفاق وازدواج المرجعية
اللافت أنّ نص الاتفاق لم يُعلَن رسميًا بكامل تفاصيله الدقيقة، ولم يصدر بيانٌ موحّد يحدّد الأساس الذي أُقرّ عليه، مما يجعله هشًّا وقابلًا للانفجار في أي لحظة. فمن الواضح أن كل طرفٍ يقرأ الاتفاق من زاويته الخاصة؛ إذ تعتبره واشنطن "انتصارًا دبلوماسيًا" يعكس قدرة ترامب على فرض تسوية في أحد أعقد الملفات، بينما لا ترى المقاومة أن الاتفاق يمسّ جوهر الصراع ولا الثوابت الفلسطينية.
وفي الداخل الإسرائيلي، لا يبدو المشهد أكثر استقرارًا، إذ يسود انقسام حادّ بين معسكرين؛ الأول يرى في الاتفاق فرصةً لاستعادة الأسرى وتهدئة الجبهة، بينما يعتبر الثاني، أن أي تسوية لا تتضمن القضاء الكامل على المقاومة تمثّل هزيمة استراتيجية. هذا التباين في المواقف يجعل احتمال إعادة إشعال الحرب واردًا، لا سيّما إذا شعر نتنياهو أن التهدئة قد تُضعف موقعه السياسي أمام خصومه.
وهذا الاختلاف في التفسير يُحوّل الهدنة ذاتها إلى ساحة صراع بدل أن تكون بوابة للحل. ولا يمكن فصل الاتفاق عن طموحات ترامب الشخصية والسياسية، إذ يسعى لتقديم نفسه كـ"صانع سلام عالمي" قبيل الانتخابات، مدفوعًا برغبة في نيل جائزة نوبل، كما صرّح مرارًا. لكنّ مقاربته تبدو أقرب إلى صفقة انتخابية منها إلى تسوية عادلة، إذ يحاول تحويل مأساة غزة إلى إنجازٍ انتخابي، متجاهلًا جوهر القضية الفلسطينية. بذلك، يغدو الاتفاق أقرب إلى مشهد علاقات عامة أميركي، لا تحوّلًا حقيقيًا في ميزان القوى أو في منطق الصراع.
مستقبل المقاومة بين ثلاث فرضيات
يقف مستقبل المقاومة الفلسطينية اليوم على مفترقٍ حاسم، فالاتفاق لم يحسم مصيرها ولا مصير سلاحها، ليبقى المشهد متأرجحًا بين ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
الأول، تسوية انتقالية تُبقي على وجود رمزي للمقاومة داخل غزة، تحت إشراف هيئة فلسطينية محايدة، بحيث يجري الفصل بين الجناح العسكري والإدارة المدنية للقطاع.
الثاني، نزع تدريجي للسلاح، مقابل اعتراف سياسي ودور إداري للمقاومة في إدارة غزة، وهو سيناريو وسطي بين الطروحات القائمة على "الترويض عبر الدمج"، أي تحويل القوة المسلحة إلى كيان سياسي ضمن سلطةٍ مركزيةٍ واحدة.
الثالث، إخراج المقاومة بالقوة في حال رفضت الانخراط في المراحل التالية من الخطة، وهو الخيار الذي يلوّح به اليمين الإسرائيلي علنًا، ويراه الطريق الوحيد لـ"إنهاء التهديد من جذوره"؛ وهو ما بدا واضحًا في تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بعد إعلان التوصّل إلى الاتفاق، إذ قال: "إن الحكومة لم تتخلّ عن إنهاء حكم حماس في غزة، ولا عن إزالة التهديد الذي تمثّله لإسرائيل وسكانها".
لكن جميع هذه الفرضيات، على اختلافها، تصطدم بسؤالٍ جوهري: من يملك الشرعية لتمثيل الفلسطينيين؟ فالمشهد السياسي الممزّق بين غزة والضفة والشتات يجعل من كل اتفاقٍ مجتزأ، ومن كل هدنة تسوية مؤقتة تتآكل مع الزمن.
وبغياب إطار وطني جامع، تبقى المقاومة — رغم تضحياتها — عالقة بين شرعية البندقية وشرعية التمثيل، وبين واقع يضغط نحو التهدئة ووعي شعبي ما زال يرى في المقاومة جوهر القضية لا تفصيلها.
الأسرى.. الورقة التي لا تسقط
وبحسب ما ذكرته هيئة "البث الرسمية" الإسرائيلية، فإنّ مصلحة السجون لم تتسلّم حتى الآن قائمةً بأسماء الأسرى الأمنيين الفلسطينيين الذين سيُفرج عنهم ضمن الاتفاق، ليبقى ملف الأسرى أحد أكثر الملفات حساسيةً وتعقيدًا في المفاوضات الجارية.
ففي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى تحديد قوائم الإفراج وفق معاييرها الأمنية، مركّزةً على الأسماء ذات "الخطورة المنخفضة"، تصرّ فصائل المقاومة على أن تشمل الصفقة أصحاب المحكوميات العالية.
ويمثّل هذا الملف، بما يحمله من رمزية سياسية وإنسانية، اختبارًا حقيقيًا لجدّية الأطراف في الالتزام بالاتفاق، إذ غالبًا ما كان ملف الأسرى نقطة الانفجار في معظم الهدن السابقة، حين حاولت إسرائيل الالتفاف عليه أو تأجيله.
ولذلك، فإنّ حسم هذا الملف سيحدّد إلى حدٍّ كبير مصير المراحل التالية من الاتفاق، وما إذا كان سيبقى مجرّد هدنةٍ مؤقتة أم خطوة أولى نحو تسويةٍ أعمق.
المشهد الإنساني الغائب عن الطاولة
فبينما تُتداول البنود السياسية والأمنية، لا يتضمّن الاتفاق أي جدولٍ زمني واضح لإعادة الإعمار أو لعودة المدنيين إلى منازلهم، ما يجعل منه هدنةً مؤقتة على فوهة النار. فالأوضاع المعيشية والإنسانية في القطاع ما زالت على حالها من الدمار والمجاعة وانهيار البنية التحتية، وأي تسوية لا تُرفَق بخطة إعمار واضحة ستفقد مضمونها الإنساني، وتُبقي غزة عالقةً بين رماد الحرب ووعودٍ مؤجّلة.
في الختام، تبقى الخشية الوحيدة أن يعود نتنياهو إلى إشعال الحرب مجددًا بعد تسلم الأسرى، متذرّعًا بحججٍ واهية اعتاد اختلاقها. أما ترامب، فربما يكون في تلك الأثناء قد نال جائزة نوبل التي يسعى إليها — إن نالها — ليُعاد بعدها فتح أبواب الدم من جديد. فوقف الحرب لا يعني نهايتها، والتجارب القريبة تشهد على ذلك؛ فلبنان يقدّم مثالًا حيًّا، إذ إن وقف إطلاق النار والضمانات الأميركية لم يمنعا الاغتيالات والاعتداءات التي تكاد تتكرّر يوميًا.