05-مايو-2020

جيمس جويس (THE ROSE THEATRE)

تُعتَبرُ السلطة الرمزيّة مصطلحًا مركزيًا في النظريّة الاجتماعيّة عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وذلك لأنّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بممارسة القوّة أو الهيمنة داخل الحقول المختلفة لا بشكل مادّي محسوس وإنّما بطريقة رمزيّة. من خلال سمات الإبانة، الإقناع، وإقرار رؤية حول العالَم أو تغييرها، تتميّز السّلطة بقدرتها في التأثير على العالم وبالتالي تحويله أو تغييره. من هنا، يرى بورديو أنّ السّلطة الرمزيّة هي سلطة بناء الواقع، التي تسعى لإقامة نظام معرفيّ، فهي "سلطة غير مرئيّة ولا يمكن أن تمارَس إلاّ بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنّهم يخضعون لها، بل ويمارسونها" (بورديو، الرمز والسلطة، 48).

يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أنّ السّلطة الرمزيّة هي سلطة بناء الواقع، التي تسعى لإقامة نظام معرفيّ

في عام 1918، ظهرت الطبعة الأولى لمسرحيّة المنفيون، وهي المسرحيّة الوحيدة التي ألّفها جويس ضمنَ مسيرته الأدبيّة، وتدور رحاها حول مفهوم الخيانة بين الأزواج والأصدقاء. كان جويس وقتها قد أسّس لسلطته الأدبيّة من خلال أعمال نثريّة وشعريّة مهمّة هي: مجموعته الشعريّة "موسيقى الحجرة" Chamber Music المنشورة عام 1907، ومجموعته القصصية "أهالي دبلن" Dubliners المنشورة عام 1914، وروايته السيرذاتيّة "صورة للفنّان في شبابه" A Portrait of the Artist As a Young Man المنشورة عام 1916. نشر جويس مسرحيّة "المنفيون" بعدما حقّق شهرة وسمعة أدبيّتين واسعتين في جميع أنحاء أوروبّا، رغم أنّه لم يكن قد نشر بعد رواياته يوليسيسUlysses  المنشورة عام 1922 وفينيجانز ويك Finnegans Wake  عام 1936.

اقرأ/ي أيضًا: تصريحٌ مُوارِب أو كتابةٌ تتجاوزُ شبهةَ اسمِ صاحبها

قٌدّمَت مسرحيّة المنافي لِمسرح آبي Abby Theatre الشّهير، وهو المسرح القوميّ الأيرلنديّ في مدينة دبلن، حيثُ قوبلَت بالرّفض من قبل الشاعر الإيرلنديّ المعروف في ذلك الحين وليام بتلر ييتسWilliam Butler Yeats  الذي كان أحد المؤسسين المركزيين لمسرح آبي الإيرلنديّ. لاقَت المسرحيّة المكتوبة عدّة ردود أفعال نقديّة محيّرة، نذكر من أهمّها رأي ديسموند مكارثيDesmond MacCarthy عام 1918 حيثُ قال إنّها مسرحيّة رائعة لكنّها تدعو إلى الحيرة والبلبلة في مواضع كثيرة، وإنّ روعتها تكمن في عدم القدرة على فهمها تمامًا، إضافةً إلى كونها مسرحيّة لا تخضع لشروط التحليل الأدبيّ بحكم ثوريّتها وشكل الطّرح فيها.

أما الناقد بادرياك كولم Padriac Colum فرأى أنّها مسرحيّة أقلّ حداثويةً من رواية جويس صورة للفنّان في شبابه، مؤكّدًا على حضور شكل مسرح هنريك إبسن فيها مع غياب الرمزيّة التي تحكم مسرحه.

في عام 1970، قرّر المسرحيّ البريطانيّ هارولد بينتر إخراج المسرحيّة وعرضها على مسرح ميرمايد الشهير في لندن. قبل أن يخرج بينتر مسرحيّة المنفيون، كان قد بلغ مراحل متقدّمة وشبه مكتملة في عمليّة التأسيس لسلطته كمسرحيّ داخل المسرح الأوروبيّ عمومًا والمسرح البريطانيّ على وجه الخصوص. وقد مرّ بينتر ثلاث مراحل تطوّر في استيعابه كمسرحيّ على يد النّقاد هي: مرحلة الرفض، والمرحلة الانتقاليّة، ومرحلة القبول والقوننة. في المرحلة الأولى، رفض النقّاد تقبّل أسلوب أهمّ مسرحيّاته حفلة عيد الميلاد The Birthday Party، والتي تمّ إنتاجها عام 1958 على مسرح الفنون في كامبردج، وهي المرحلة التي تشير إليها الباحثة بين الأعوام 1958-1959. ارتكز الرفض على صعوبة تصنيف أسلوب بينتر في أيّ من النماذج الدراميّة القائمة، ومن هنا تمّ الإعلان عنها كمسرحيّة "محيّرة" في أسلوبها، ولم تلقَ رواجًا نقديًا. المرحلة الثانية الانتقاليّة، والتي بدأ النقاد يغيّرون فيها نظرتهم تجاه أسلوب بينتر العصيّ على التّصنيف، وهي مرحلة تمتدّ بين 1959-1964. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة القبول والقوننة، والتي تبدأ في عام 1964 وتكتمل في عام 1965 حيث أطلق النقاد على أسلوب بينتر البنترسكيّة Pinteresque لتميّز أسلوبه المسرحيّ الخاصّ الذي يرتكز على اللغة "المعطوبة" والحبكة البسيطة التي يشوبها الجوّ "الكافكاويّ" المهدّد، إلخ.

كما أشرنا، قبل أن يقوم بينتر بإخراج مسرحيّة جويس التي حُكم عليها بـ"النّفي والإقصاء" من قبل المخرجين والنقاد، كان قد اكتسب كفاءة وشرعيّة رمزيّة محقّقًا مكانة تخوّله من إحداث تغيير نتيجة اعتراف الآخرين بسلطته الرمزيّة. في رأيي، يتكوّن رأس المال الرمزيّ عند بينتر من عدّة عناصر أهمّها: أولًا: السمعة والانتشار اللذين حقّقهما على مستوى التأليف المسرحيّ. ثانيًا: العلاقة الوطيدة التي أنشأها مع المؤسسة النقديّة، والتي تقوم على الثّقة بأنّ ما يقدّمه بينتر له قيمة كبيرة. ثالثًا: اختيار كاتب بحجم جويس لإعادة إحياء عمل مسرحيّ له لم يأخذ حقّه في السنوات السابقة (وقد رحل جويس عن العالَم عام 1941 تاركًا وراءه روايتين من أهم وأصعب روايات القرن العشرين هما يوليسيس وفينيجانز ويك المذكورتين سابقًا) وعرضه على مسرح شهير له جمهوره. المقصود أنّ عوامل النجاح توفّرت في عمليّة وساطة بينتر لجويس بصفة الأوّل مخرجًا، وذلك بسبب حالة "التوافق الكامل" بين "الحزمة الرمزيّة" التي يمتلكها بينتر في هذه المرحلة، وبين المؤسسة النقديّة التي "شَرعَنَت" سلطته كمسرحيّ وَكَمُخرج.

الثروة الرمزية التي امتلكها هارولد بينتر غيّرت مكانة مسرحيّة "المنفيون" لجيمس جويس

تلقّى بينتر ردود أفعال إيجابيّة على إخراج هذه المسرحيّة، حيث كتب، على سبيل المثال، فرانك ماركوس في سنداي تيليغراف The Sunday Telegraph، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970 عن جرأة بينتر في الكشف عن هذه المسرحيّة، والتي وصفها ب "الكنز". كتب دافيد زين ماروفيتس في فيلاج فويس   Village Voice في 18 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1971 عن أهميّة المسرحيّة التي لا تقلّ عن أهميّة مسرحيّات بينتر نفسه، واصفًا المسرحيّة بأنها أعظم المسرحيّات المعاصرة. وأطرى رونالد برايدن من صحيفة ذا أوبزيرفرThe Observer في 29 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970، على طريقة الإخراج الدقيقة التي نفّذها بينتر. وفي كانون الثاني عام 1971، قارنها مارتن إسلن بمسرحيات إدوارد أولبي وبينتر نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر على إيقاع بطء الزمن

الثروة الرمزية التي امتلكها بينتر، بصفته العنصر الوسيط الأهمّ هنا، غيّرت مكانة مسرحيّة "المنفيون" لجيمس جويس، الأسطورة، التي حوّلها الأوّل من مسرحية مجهولة، إلى مسرحيّة لها شأنها في الحقل المسرحيّ عمومًا، والخطاب المسرحيّ النقديّ الذي اعترف بالمسرحيّة نتيجة هذه الوساطة على وجه الخصوص.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكتابة الروائية.. قريبًا من باختين بعيدًا عن سيبويه

الكتابة الشجرية والكتابة العشبية