بين بلير وكوشنر وترامب.. محاولة مشبوهة لرسم مستقبل غزة
29 أغسطس 2025
عاد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى واجهة السياسة في الشرق الأوسط، لكن هذه المرة من بوابة غزة ما بعد الحرب، حيث يسعى إلى لعب دور في ترتيبات اليوم التالي وإعادة صياغة المشهد السياسي والإنساني في القطاع.
بلير، الذي أُجبر على الاستقالة عقب الغزو الكارثي للعراق عام 2003، وهو القرار الذي أدى إلى مقتل نحو مليون عراقي، عاد ليشارك في اجتماعات حساسة بالبيت الأبيض، إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وصهره جاريد كوشنر، ومسؤولين إسرائيليين وإماراتيين، لمناقشة مستقبل غزة.
وبحسب تقارير إعلامية غربية، يعمل بلير منذ أشهر على مقترح لإدارة غزة بعد الحرب، بالتعاون مع كوشنر، والوزير الإسرائيلي للشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد.
بلير، الذي استقال بعد غزو العراق عام 2003، عاد للمشاركة في اجتماعات بالبيت الأبيض مع ترامب وكوشنر ومسؤولين إسرائيليين وإماراتيين لبحث مستقبل غزة
لكن اللافت أن من غاب عن هذه الطاولة هم الفلسطينيون أنفسهم. فباستثناء إطلاع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على بعض التفاصيل، لا يملك الفلسطينيون أي دور حقيقي في صياغة التصورات المتعلقة بمستقبل القطاع.
خطط "ريفيرا غزة" ومشاريع اقتصادية مشبوهة
تفاصيل الخطط التي يناقشها بلير لا تزال غير واضحة، غير أن اليمين الإسرائيلي يبدي حماسًا لما سُرّب عقب انتخاب تصريح ترامب، الذي يتضمن تطهيرًا عرقيًا في غزة وتحويلها إلى منتجع دولي تحت اسم "ريفيرا غزة"، على الرغم من إدانة الفكرة على نطاق واسع بسبب ما تتضمنه الخطة من تهجير قسري للفلسطينيين عن أرضهم.
وفي تموز/يوليو الماضي، ظهرت تقارير عن تورط معهد توني بلير في مشروع وضعه رجال أعمال إسرائيليون بمساعدة موظفين من شركة الاستشارات الأميركية "بوسطن الاستشارية" (BCG)، قدمت نماذج تفصيلية تُقترح فيها وجهات محتملة لتهجير سكان غزة، وتقترح العمل على المنتجعات التي تحدث عنها ترامب، بالإضافة لمنطقة صناعية تحمل اسم "إيلون ماسك". المعهد نفى مشاركته في المشروع، بينما أقالت الشركة الموظفين اللذين شاركا في الخطة.
ما الذي جرى في الاجتماع؟
بحسب تقارير صحفية، استمر أكثر من ساعة، وتركز على قضايا إنسانية عاجلة مثل وقف القتال مؤقتًا لتأمين إدخال المواد الغذائية، وتوزيع المساعدات، إضافة إلى بحث البدائل المحتملة لحكم حركة حماس بعد انتهاء الحرب.
ورغم هذه الأجندة المثقلة بالملفات الحساسة، وصف البيت الأبيض بأنه مجرد "اجتماع سياسي عادي"، في محاولة للتقليل من أهميته، على عكس تصريحات ويتيكوف نفسه الذي كان قد وصفه قبل أيام بأنه "اجتماع كبير" سيضع ملامح خطة شاملة تأخذ في الاعتبار "الكرامة والعلاقات الإنسانية".
في المقابل، أكدت تقارير إعلامية أنه بخصوص ما تردد حول تضمين الخطة مقترحات اقتصادية مثيرة للجدل، مثل مشروع "ريفيرا غزة " أو تطوير الواجهة البحرية للقطاع ليصبح مقصدًا سياحيًا، أن هذه الأفكار ليست محل إجماع، بل قوبلت بانتقادات واسعة عند تسريبها سابقًا، ويبدو أنها فقدت الزخم ولم تعد تحظى بدعم جدي داخل أروقة النقاش الأميركي والإسرائيلي.
"استعمار مكرر" وغياب الإرادة الفلسطينية
يتحدث مدير مركز "بيسان للأبحاث والتنمية" وعضو اللجنة التوجيهية لشبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، أُبيّ العبودي، لصحيفة "الغارديان" واصفًا ما يجري بأنه "ممارسة استعمارية"، موضحًا:"لا يوجد فلسطيني واحد على الطاولة، لا من القيادة السياسية ولا من المجتمع المدني. مستقبل غزة لا يقرره بلير ولا كوشنر، بل الشعب الفلسطيني وحده".
ويرى العبودي أن بلير فقد أي مصداقية بعد دوره في حرب العراق، وفشله كمبعوث للرباعية الدولية (2007 – 2015) في كبح الاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية.
رؤية المجتمع المدني الفلسطيني
منذ بداية الحرب على غزة، شددت مؤسسات المجتمع المدني على أن أي إعادة إعمار أو إدارة لغزة يجب أن تشرف عليها جهة فلسطينية، وأن تراعي التراث التاريخي والاجتماعي والثقافي للقطاع.
ويؤكد العبودي أن 80 % من سكان غزة هم لاجئون هُجّر أجدادهم عام 1948، وأن أي حل واقعي يجب أن يوحّد الضفة الغربية وغزة وينهي منظومة السيطرة الإسرائيلية.
ويضيف: "لا ينبغي أن يكون للإسرائيليين أي دور في تقرير مستقبل الفلسطينيين؛ هذه أولى الدروس من هذه الإبادة".
ويشير إلى أن المجتمع المدني الفلسطيني أيّد الخطة المصرية المدعومة عربيًا وأوروبيًا، والتي ترتكز على إعادة إعمار غزة بقيادة تكنوقراط فلسطينيين تحت مظلة السلطة الفلسطينية، وصولًا إلى انتخابات عامة توحد الضفة وغزة.
غياب الاستقلالية والضغط المزدوج
الحياة في الضفة الغربية – بحسب العبودي – تعني العيش بين فكي كماشة: احتلال إسرائيلي مباشر من جهة، وسلطة فلسطينية متعاونة أمنيًا معه من جهة أخرى.
مركز بيسان، الذي يديره، ينشط للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، وقد تعرض بدوره لضغوط متكررة. العبودي اعتُقل من قبل الاحتلال الإسرائيلي ومن أجهزة السلطة الفلسطينية، كما صُنّف المركز مع خمس منظمات حقوقية أخرى كـ"إرهابية" من قبل إسرائيل، في خطوة رفضها المجتمع الدولي.
"تخيل أن يُعامل مركز حقوقي يقدم المساعدات مثل القاعدة أو داعش؟"، يتساءل العبودي.
لير فقد أي مصداقية بعد دوره في حرب العراق، وفشله كمبعوث للرباعية الدولية (2007 – 2015) في كبح الاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية
الأمل رغم القمع
ورغم القمع المزدوج، يتمسك العبودي بالأمل، قائلًا: "ما يبقينا صامدين هو رؤية الملايين في شوارع لندن ومانشستر وسيدني يتظاهرون لأجلنا. نحن نعلم أن الحق معنا وأن شعوب العالم تشعر بمعاناتنا".
ويختم حديثه بالتأكيد على أن: "مهما جرى في الغرف المغلقة، ستبقى الوكالة السياسية للشعب نفسه. الناس هم أصحاب القوة، وهم قادرون على استعادة قرارهم من الحكومات الفاسدة ورجال الأعمال".
رؤى غربية تصطدم بالتمثيل والشرعية الوطنية
عودة توني بلير إلى واجهة السياسة الشرق أوسطية عبر "مشاريع مستقبل غزة" أعادت تسليط الضوء على جدل قديم جديد: من يملك حق تقرير مصير الفلسطينيين؟ ففي الوقت الذي تتحرك فيه واشنطن وحلفاؤها لصياغة سيناريوهات "اليوم التالي للحرب" خلف أبواب مغلقة، يؤكد المجتمع المدني الفلسطيني أن أي مسار سياسي أو اقتصادي لن ينجح ما لم ينطلق من الإرادة الفلسطينية نفسها، ومن وحدة الصف الداخلي. فالتجارب السابقة أثبتت أن الخطط المستوردة تفشل أمام صلابة الهوية الفلسطينية وحق الشعب في تقرير مستقبله بعيدًا عن المشاريع المفروضة.