25-أغسطس-2017

خوشي شوقي/ كردستان العراق

"بكرا السّاعة 8 رح نستلم الجثّة من المشفى الوطني"، هكذا أنهى والد بهار مكالمته الهاتفية معها، إنّها المرّة الأولى التي ستلتقي فيها بهوزان وهو مستلقٍ على الأرض، باردٌ ووحيد، ستراه في غرفة الجلوس التي اعتادا شرب القهوة فيها سويًّا، إلّا إنَّ القدر كسر كل الفناجين على قلبها، هذا الذي يمكثُ في صدرها، صارَ شظيّة تنخر عظم الحياة، لم تخرج عن صمتها بعد سماع النبأ حتّى أنّها لم تسأل كيف مات، تمدّدت غشاوة العمى على عينيها، فتحت باب البيت وخرجت، لم تكن تعلم إنّ السّاعة تجاوزت الواحدة صباحًا، خرجت في ذلك اليوم الشّتوي منوّمةً تائهة، توقّف كل شيء عن الحركة، كان المطر يهطلُ هادئا، يطرق جسدها بلطف، كأنّه يخشى العاصفة التي لن تهزّها، تجرُّ أذيال هزيمةٍ لم تعهدها، كان حذاؤها المنزلي ذو الإصبع موحِلًا، والبردُ يجعل من أصابع قدميها زرقاء، لم يُخِفْها ظلام الشوارع، ولا أصوات الكلاب الجائعة، تمشي إلى ما لا تعلم، أضواء سيارة قادمة باتجاهها، جعلتها تستقيظ من متاهتها، وإذ بالسّائق يبتسم ويقول لها: "تعي نتدفّى ببيتي".

لم ترَ وجهه، لكنّها أدركت إنّها وحدها بعد الثانيّة صباحًا في السّوق، عليها أن تعود، لكنَّ هذا الرّجل يلاحقها، حتّى هاتفها لا تتذّكر أين وضعته، لم تسمح لها صدمتها أن تردَّ عليه، بدأت تمشي نحو البيت، ظنَّ ذلك السّائق أنّها مثله، فسار معها بسيارته يوجّهٌ لها كلامًا بذيئًا، انحنَتْ وتناولت كومةً من الأحجار لترميها عليه، وتركض بهلعٍ، تنظر خلفها كي تتأكّدَ من رحيله.

لم تكن بهار تسمع نواح أم هوزان عليه، الشّاب العشرينيّ طويل القامة الذي وضعوا جثّته في غرفة الجلوس قبل دفنها، لا تدري كيف تطلبُ من أحدهم أن يقومَ بفتح عيون هوزان كي تخبرها أنّها تحبّه. الزّي الكُردي الذي مدّده والدها على جسد حبيبها، كان يُغيظها، هكذا نسَيت أنّ عيد النّوروز بعد أيام، وأنّ هوزان قد قام بخياطة هذا الثوب ليرتديه في العيد، وأنّها كانت قد قررت الإفصاحَ عن مشاعرها وحبّها له في ذات اليوم. هي الآن أمام أوّل شابٍ كان حارسًا لنبضِ قلبها، لم تهتم بتلك الرّصاصة الطائشة التي اخترقت عنق ابن عمها الذي تحبه وقتلته، لم تكترث بأنّ الرّصاصة قدمت من الشّمال، ففاجعتها الموت هزمَتْ كلَّ فضولٍ فيها، كانت نساء حي "قِدُور بَك"* يبكين بحرقة، لم تكن تلك الدموع لهوزان وحسب، ففي الليلة الفائتة سقطت قذائفٌ أخرى على الحي، تضرّرت بعض الدكاكين، قُتِلَ هوزان وهو جالسٌ في بيته يشاهد التلفزيون، حدّثت بهار نفسها: "ليس من المعقول أن تنتهي حياة هوزان بهذه السّهولة والاستهتار، هذا السقوط كابوسٌ طويل، يجب أن يتخرّج من كليّة الطب كي يصبح طبيبًا، ويجب أن أصارحه بحبّي ولا أنتظر مبادرته، ويجب و.. و.."

كانت أفواج المشيّعين نحو المقبرة متناثرةً، جثّة هوزان في السيارة تتقدّمهم، لم يُسْمَح لبهار برؤية التّراب وهو ينهال على حبيبها، فالرّجال منعوا النّسوةَ من الاقتراب، فهي تنتمي لعائلةٍ ريفيّة محافظة، تفصل في كل شيءٍ بين الجنسين، وترى المرأة كائنًا وجِدَ ليلبي طلبات الرّجل، جلست بهار على حافّة قبرٍ بعيدٍ عن قبره، تنتظرُ المشيّعينَ أن يرحلوا كي تذهب إليه، بعدَ أن بقيت وحيدة في المقبرة، بدأت تمشي نحو قبره، لكنّها أضاعته، فالمقبرة كبيرة جدًّا، وقبر هوزان لا يحمل اسمًا بعد، انتقلَت بين القبر و الآخر، تبحثُ عن قلبها الذي دُفِنَ معه، قلبها الذي لم يخبر هوزان بحبّه، هطلَ البَرَدُ غاضبًا، يجرح ذراعيها ويخدشُ حياتها، كانَ الوحل المتجمّع تحت قدميها يعيق مشيتها، صرخت وحيدة في المقبرة: "هوزان، أين أنت يا حبيبي؟".

هكذا مشَتْ حتّى سقطت مغشيًّا عليها، والبَرَدُ القاسي يهطل على غيبوبتها.

كانت أقداحُ القهوة المرّة متناثرة في المطبخ، فيما كانت خيمتان تقابلان باب البيت إحداهما للرجال والأخرى للنّساء، تتحرّك نسوة العائلة كالمكوك لخدمة الضيوف القائمين بواجب العزاء، أمّا مقّربات الميّت فيجلسن تحت الخيمة المخصّصة للنّساء للبكاء والرّثاء، وتقوم الأخريات بكل الأعمال طيلة أيام العزاء، كانت بهار من القسم الثّاني، فهي أمام العائلة والناس ليست مقربة منه، وحزنها أقل من أن تكون باكية مع القريبات، تقوم بهار بجلي ما تجلبه بنات خالها من تحت الخيمة، بين الرّغوةِ التي تسيل على يديها، والماء الذي يسيل غاضبًا قويًّا كشلال، تسيل الرغوة على الفنجان، تراها بهار هشّة وضعيفة أمام قوة الماء، تنزعج قليلًا من المهمة التي وُكِّلَتْ إليها منذ الأزل دون رحمة، وكأنّ القدر يعاقبها على ذنبٍ لم تقترفه، فهي ونساء العائلة عليهن أن يعملن مهما كانت الظروف، دون أي تقدير لمشاعرهن، تلوم نفسها لأنها فكرت هكذا، وتفكر فيما لو كانت حبيبة أو خطيبة هوزان، كانت ستجلس تحت الخيمة، تبكي مع الباكيات، إلّا إنّها الآن فتاة عادية تغسل أقداح عينيها حسرة، تحدّثُ نفسها: "ليت رغوةً تنظّفُ مكان جرحي، والثقب الذي تركه هوزان في قلبي".  

لم يكنْ اللّيل أفضل حالًا من النّهار، فبهار مشرّدة الفكر مقسّمة الذهن، في كلّ ليلة لا بدّ أن تحلم به، تارةً يتزوجان في الحلم، وتارةً أخرى تراه يفصح لها عن حبّه، لكنّها تستقيظ وإذ بمطرقة الواقع المرّ تسقط على حلمها، بعد شهرين لم يتغير شيءٌ، فبهار لا تحسُّ بشيء إلا برغبة جامحة بالكف عن فعل الحياة، لم تعد تعنيها أصوات العصافير التي وضعت عشّها على نافذة غرفتها، ولا النّدى الذي كان يشدّها وهي تراقب شغف الورد بماءه، ولا حتى الرّصاص الذي يصبُّ على مدينتها، هي الآن فتاةٌ كبيرة، منحها الموت سنًّا متقدّمة، كيف لها أن تبني بيتًا من الحب والحرب تزرع عقم المشاعر فيها، فحياتها باتت حبلًا يلفُّ رقبتها ويعيق تنفّسها، لم تجد سوى أن تسمح لرمال الحرب المتحركة أن تسحب قدميها نحو الأسفل، تغرق رويدًا رويدًا في بحر من الألغام، يقذفها مدٌّ ويخفيها جذر.

كانت والدة بهار قد طلبت منها أن تجلب صور هوزان عد أن يتمّ تكبيرها، من استديو في المدينة، لتسلمها فيما بعد لعمها، ذهبت والشوق والانكسار يرافقانها، وصلت وإذ بالمحل مغلق، سألت أصحاب أحد المحلات عن السّبب، فأخبرها بأنّ لدى المصوّر حالة وفاة لذا لن يعمل لفترة، عادت بهار إلى المنزل بصمت، دون أن تكترث كثيرًا بما حصل.

في طريقها إلى الجامعة، أفواجٌ من البشر تتحرّك لم تكن بهار تراهم سوى موتى أو أقارب شهداء، وطلاب الجامعة في نظرها دمى متحرّكة، تلعب بهم الحرب فتقتل أحدًا وتجرح آخر، هذه النّار التي لفحت قلب الفتاة العشرينيّة أكلت كل ما التقته، إنّها التّاسعة صباحًا استدارت بهار نحو الباب الكبير لترمي بطاقتها الجامعية، وتتجّهَ نحو مجهولٍ تاركةٍ حلمها في أن تصبحَ مهندسة زراعية، لتلاحق غيومًا سوداء خيّمَتْ على حياتها.

هذه الحرب التي تطحنها، تجرف كل ماضٍ كان واقعًا ثابتًا لا يتغيّر، قررت أن تتعرّف على بطلٍ كان يُحكى عنه كثيرًا، في قدرته على قلب المشاعر، وإظهار كلَّ ما يُخفى عن سطح الحياة، ارتدّت ثيابها ووضعت شالًا على رأسها كي لا يعرفها أحدٌ من العائلة، في شوارع المدينة المصابة جزئيًا، كانت عيون بهار تبحثُ عن محلٍ للمشروبات الرّوحية، قالت لنفسها: "لا بدَّ أن تؤثّر هذه المشروبات فيني، فأنا مسجونةٌ في تلك المقبرة معه".

رأت محلًا على رأس الشّارع، جالت حدقتاها بين الزجاجات المصفوفة على الرّف، لا تعرف شيئًا عن هذا الشيء الغريب، إلّا إنّ حربها قادتها إلى هذه الأرض الجديدة.

انتظرت بهار أن يخلد والداها للنوم لتقوم بإقفال باب غرفتها، ملأت كأسًا زجاجية ووضعتها على الطاولة، جلست مع الكأس تقابلها، نادتها مكعبات الثلج داخل الكأس وهي على الحافة التي ستعبرها لأول مرة، ذاقت بهار المشروب لكن الطعم المرّ أزعجها، لم تكترث بذلك وشربت كل ما في الكأس، أصبحت تبكي وحدها سكرانةً، كانت تحرّك الكرسيّ الهزّاز الذي يقابلها، فيما أرخى الليل ظلامه على العالم، فككّت جديلتها فانطلق شعرها كماءِ جارف، ترقص خصلات شعرها مع حركة الكُرسي، بدأت تنوّحُ بصوتٍ منخفض، كانَ هوزان جالسًا على الكرسي، هذا ما رأته بهار في تلك اللحظة.

كانت بهار تنتظر كل مرّة الفرصة المناسبة لتتوحد مع نفسها بالسرّ، وهي تراقب البيت وتنتظر الوحدة، كي تلتقي مع حزنها، خاطبت نفسها وهي تسكر ذات مرة قائلةً: "أحاول أن أفهم نفسي، أقرصُ يدي عندما أشاهد كابوسًا أو أعيش حلمًا في الواقع، أشربُ لأعرف أنّني موجودةٌ، وأنَّ الأرضَ تدور، كأنّ جسدي قد التصق ببعضه بفضل صمغٍ خفي، أشعرُ أنّني في كوكبٍ جديد لا يشبه كوكبة أطفال الحي وهم يهرولون للعب في ساحة الحي، عصرَ يومٍ صيفيٍّ طويل".

السّتائر الخمريّة والصور المعلّقة، المظلّة السّوداء، لم تلفت نظر بهار حين دخلت إلى الاستوديو للمرة الثانية بعد فترة من زيارتها الأولى، صورة حديثة على الطاولة التي يجلس عليها المصوّر أحمد شغلت بهار، كانت لطفلٍ في العقد الثّاني من عمره، وضِعَ خطٌّ أسود على يسار الصّورة، في دلالة على موته، كان  أحمد رجلًا خمسيّنيًا قد شابَتْ خصلاتٍ من شعره، يجلس على طاولته، يدخّنُ بشراهةٍ، سألته بهار عن الصّور، فأخبرها أنّ ظروفه لم تسمح له بالعمل، وطلب منها بعد أن شربا قهوة معًا، أن تزوره في الأسبوع المقبل، وأن تعطيه رقمها ليخبرها بموعد المجيء، كي تستلم الصّور، لبّت بهار رغبته ورحلت، كانَ يحدّثها كلّ يوم، يبكي وهو يحكي لها عن فلذة كبده، وهي تبكي على قلبها، صارا صديقين، يفرغ كلّ منهما شحنة الحزن في الآخر، ويرثي واحدهم موت أحبائه للثاني.

لم يكن أحمد قد حضّرَ الصّور عندما زارته بهار مرة أخرى، دعاها إلى غرفةٍ أخرى ليعملا معًا، بعد أن تعاطفا مع رحيل الحب وهي يلتوّى على نار الحرب، لبّت بهار دعوته، وإذ بها في غرفةٍ ضيّقة مظلمة، بلا نوافذ أو أضواء، كان أحمد يلتصق ببهار لضيق المكان، مدّ يديه ببطءٍ إلى كتفيها وأدارهما نحوه، أحسّت بهار بالدّم يتوقّف عن الجري في عروقها من هول المشهد، ونبضها يزيد ألف مرّة، أقتربَ أكثر لتمسّ شفاهه خدّها، هي المرّةُ الأولى التي يقبّلها رجلٌ لا تحبّه، حتى هوزان لم يفعل ذلك معها سوى مرّةً واحدة، حيث بقيا وحيدين في بيت الجد، عندما كانت مراهقة، وأحبّته من تلك اللحظة، جالت يدا أحمد على جسدها، وهي باردة كالثلج، لا تقبل ولا ترفض، وكأنّ القطّة قد أكلت لسانها، مدّ يده إلى ساقيها يرفعهما إلى الأعلى، استقيظت فجأةً من غيبوبتها، أبعدته عنها وهربت إلى الخارج، لا تعرف ماذا حصل، أو بمَ تشعر..

كانَتْ المياه الباردة التي تصبُّ على جسدها، توقظها من غفلتها العشرينيّة، كأنّها تمشي على نهرٍ من البارود سيشتعل في أيّ لحظة، عادت الصور في مخيلتها كشريطٍ سريع، موت هوزان، عائلتها التي تهمّشها، ابن أحمد الذي قُتِل، الغرفة المظلمة، حدّثت نفسها: "يا لهشاشة القفص الذي وضعه المجتمع حولي، استطاعت رصاصة الحرب أن تثقبه بسهولة،  كانَ سيّاجًا من زجاج كسرته أول حجرة، كانَ صرحًا من خيالٍ فهوى، إنّه زمن الخيول السّكرانة كمّا سمى أحد المخرجين أفلامه".

أخفضت رأسها، وهي تحملق في جسدها العاري، والماء ينهمر عليه، أحسّت بالذّنب، فهي لم ترد أن تكون خائنة للماضي، لكن حاضرها غلبها، فكّرت مليًّا باستسلامها لأحمد، وتابعت: "أنا التي تُحْرَقُ لأجل أنوثةٍ تهطلُ منّي، أنا التي دلّتني رصاصات الموت على من أعيش بداخله، أتبرّع بحلمتين يرضعُ منهما أحياءٌ لا يعرفون كيف يرثون أمواتهم، بشفتين تنطقان حنانًا لا يسمعه اللّه".

كانت قطرات الماء المجتمعة على السيراميك الأبيض، والرّغوة التي اجتمعت حولها، لوحة جديدة لم تعهدها من قبل، تذكّرت رغوة الأقداح، ورغوة المشروب، والرغوة التي قادتها إلى ذلك الاستوديو، بدت لها بهار البارحة، رغوةً هشّة، جرفتها ماء الحرب، إلى شاطئٍ ربما ستمكثُ فيه إلى أمدٍ بعيد.

 

  • قُدُور بَك: حي في مدينة القامشلي السورية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكان بارد جدًّا

ذلكَ الضبابُ