بين أمل الرجوع وقلق البقاء.. الفلسطينيون في مصر يعيشون حيرة العودة
13 أكتوبر 2025
في مصر، على ضفاف النيل وفي أزقة القاهرة والجيزة والإسكندرية، يعيش النازحون الفلسطينيون من غزة على إيقاع واحد ونغمة ثابتة لا تتغير: حنين لا ينطفئ إلى الوطن الجريح.
فكلّما لاح في الأفق خيط ضوءٍ، وإن كان خافتًا، يوحي بانتهاء حرب الإبادة وبدء ترميم الحياة من رمادها، ترتفع من خلف الجدران أصوات الشوق، وأهازيج اللهفة، وطرب العودة، شوقٌ تترجمه دموع الأمهات على أسماء الشهداء، وعيون الأطفال التي لم تعرف من وطنهم إلا صور النزوح وذكريات الفرار تحت القصف.
مع إعلان اتفاق وقف إطلاق النار ودخول مرحلته الأولى حيز التنفيذ، ينقلب المشهد الإنساني للنازحين الفلسطينيين في مصر إلى لحظة ترقب ولهفة عميقة، لقد خرجت القلوب من حناجرها، وتحررت الأبصار من حدودها الضيقة، بينما تجهز الأجساد أرواحها لمسار واحد لا خلاف عليه: قبلة الوطن.
200 ألف فلسطيني في مصر يحبسون الأنفاس
يعيش في مصر اليوم ما يقرب من 200 ألف فلسطيني، يترقبون بقلق خبر وقف إطلاق النار. فبعد أن تحولت غزة إلى جحيم، تغيّر المشهد كليًا، وانتقل الوجود الفلسطيني في مصر من تواجدٍ محدود لأغراض التعليم والعلاج، وكان يُقدَّر بنحو 100 ألف قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إلى أزمة نزوح إنساني وقانوني واسعة النطاق.
منذ بدء الانتهاكات الإسرائيلية التي خلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، عبر إلى الأراضي المصرية من معبر رفح ما بين 80 و100 ألف فلسطيني إضافي. لم تكن هذه الأعداد مجرد أرقام، بل شملت آلاف الحالات الحرجة التي تحتاج إلى رعاية طبية عاجلة. ووفق البيانات الحكومية المصرية، بلغ عدد الجرحى نحو 44.065 شخصًا، بينهم أكثر من 10.700 طفل، حملوا معهم صدمة الحرب وآثارها إلى أرض مصر.
ورغم الفجوة الكبيرة بين استقبال مصر للاجئين الفلسطينيين وتعاملها معهم مقارنة بغيرها من الدول المجاورة، فإن ذلك لم يُقلّل من حجم المعاناة النفسية والمادية التي يواجهونها، وهي معاناة امتدت لتطال صميم وجودهم القانوني.
يعيش في مصر اليوم ما يقرب من 200 ألف فلسطيني، يترقبون بقلق خبر وقف إطلاق النار
يقع الفلسطينيون القادمون من غزة بعد اندلاع الحرب في مأزق قانوني كبير له تداعيات اقتصادية ومعيشية مدمرة، نتيجة الدخول غير القانوني، حيث دخل معظم هؤلاء الأفراد، وإن كان دخولًا اضطراريًا، بصفة تتطلب تسوية سريعة. لكنهم لم يُمنحوا إلا إقامة أولية لمدة 45 يومًا، وبعدها يُدرجون على قوائم المخالفين، يتطلب تجديد هذه الإقامات شروطًا وضوابط والتزامات مالية هائلة، تقع غالبًا خارج استطاعة الغالبية العظمى ممن فقدوا كل شيء.
بين لهفة الشوق ووجل الترقب
بالنسبة للآلاف الذين أجبرتهم وحشية الحرب على النزوح، فإن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته حماس مع حكومة الاحتلال، فهو بالنسبة لهم ليس مجرد قرار سياسي، بل هو دعوة روحية للعودة، يحملون أرواحهم على أكفهم، قاصدين الطريق الذي لا يضلّه عابد ولا يخطئه مؤمن، نحو غزة التي تنتظرهم.
هذا الاحتفاء العارم بالتهدئة يمزج بين شوق لا يوصف إلى التراب والأهل، وبين ترقب مشوب بالوجل، فالتجربة القاسية لحرب الإبادة تركت في النفوس جرحًا عميقًا، يغذي تخوفًا جماعيًا: هل ستضع الحرب أوزارها فعلًا وإلى الأبد؟ أم أن ما يحدث مجرد "استراحة محاربين"، هدنة مؤقتة تلتقط فيها الأطراف أنفاسها، ثم تُستأنف بعدها جولات القتل والدمار؟
إن العودة المرتقبة تحمل ثقلًا مزدوجًا: فرحة اللقاء بالوطن، وخوف من أن تكون هذه الفرحة سريعة الزوال، وأن يُجبروا على النزوح مرة أخرى من بيوت لم يكد يعود إليها الدفء، إنهم ينتظرون أن يتحول هذا الأمل الهش إلى سلام دائم وحقيقي.
عودة عاجلة لا تقبل التفكير.. الحنين ينتصر
بمجرد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار ودخول مرحلته الأولى حيز التنفيذ، تحولت مشاعر الفلسطينيين النازحين في مصر إلى فيض عارم من الشوق الممزوج بدموع الفرح والترقب، بالنسبة لهم، القرار السياسي هو إذنٌ بالبدء في رحلة الروح نحو الوطن.
"سأكون أول فلسطينية تعبر إلى قطاع غزة بعد فتح معبر رفح"، بهذه الكلمات الجازمة، عبرت نور، الثلاثينية، عن شغفها بالعودة إلى دير البلح، مؤكدة أنها لن تنتظر طويلًا رغم بقاء زوجها في القاهرة.
تتحدث نور عن مشاعر متناقضة تختزل تجربة النزوح، فبالرغم من الدفء العائلي الذي وجدته في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة، حيث "كونت عائلة مصرية" تعاملها كـ "ابنة لهم" لا تقل حنانًا عن والديها في غزة، إلا أن قلبها يرفض الاستقرار المؤقت.
تقول نور لـ "الترا صوت": "مصر بالنسبة لي ليست مجرد بلد مضيف، بل امتدادٌ للعروبة والوجدان، وسندٌ يخفّف ثقل الفقد والغربة. لكن رغم كل هذا، تبقى محطة انتظار مؤقتة على طريق الحلم الأكبر، العودة إلى غزة". وتضيف: "الحنين لبلدتي وبيتي القديم يفوق كل قدرات الاستيعاب، وينحّي العقل والحسابات المنطقية جانبًا. لقد انتظرت هذا اليوم على أحر من الجمر لأكثر من عام ونصف".
عودة تُعيد الروح إلى الجسد المنهك
هذه اللهفة يشاركها فيها الشاب حسام الذي لم يتمالك أعصابه من شدة الفرحة منذ سماعه عن قرار وقف إطلاق النار، فالحرب المدمرة أخذت من عائلته ما لا يقل عن سبعة شهداء، فيما لا يزال أكثر من 35 فردًا يتلقون العلاج في غزة ومصر، بعضهم في حالة حرجة.
بكلمات تكسوها الدموع، قال حسام لـ "الترا صوت" إن نسيم أزقة خانيونس والبلدات القديمة هناك في غزة "كفيل أن يعيد الروح إلى جسده المنهك مرة أخرى"، بالنسبة له، فإن التراب الفلسطيني، حتى وهو مغطى بالركام الذي صارت عليه جل المدن، "ما يزال يعلو على ضجيج المدافع، كأنه ينادي أبناءه واحدًا واحدًا.
يصف حسام التراب بأنه رمز لهوية لا تموت، وخيط يشدّ الذاكرة نحو الوطن مهما تباعدت المسافات، مؤكدًا: "نحن الفلسطينيون في مصر نعيش بأجسادنا هنا، لكن أرواحنا هناك، فوق أسوار غزة، تحوم حول البيوت المهدّمة، تعدّ الأيام بلهفة، وتنتظر اللحظة التي يُرفع فيها علم العودة، مهما كانت المخاطر".
ويرى حسام أن إقامته في مصر كانت "رحلة انتظارٍ مشبعة بالصبر والإصرار"، وأنها تتجاوز حدود اللجوء إلى أفق الحلم، فكما يؤكد: "حين تعود الأرض لأهلها، سيبدؤون من جديد، لا من حجارةٍ فقط، بل من أملٍ عنيدٍ يرفض الانكسار، ومن ذاكرةٍ تعرف أن الغربة مهما كانت كريمة ودافئة، فإنها لا تعوّض دفء الوطن ولا رائحة ترابه".
حسابات العقل والقلب.. صراع مؤلم
بينما يغلب الشوق قلوب الكثيرين للعودة الفورية إلى غزة، يقف البعض الآخر أمام باب العودة بحذر عميق وتوجس مؤلم. من هؤلاء مها، الشابة الفلسطينية من جباليا، التي ترى أن الوضع في القطاع "ليس بالمطمئن على الإطلاق"، وأن العودة حاليًا هي مغامرة قد تكلف الشخص حياته.
بالنسبة لمها وجيرانها، فإن الاتفاق الحالي لا يمثل نهاية المشهد، يكمن القلق في الشكوك حول نوايا نتنياهو وحكومته، وفي احتمالات استئناف الحرب مجددًا بعد تجريد المقاومة من ورقة الأسرى، التي تعد أكبر رصيد لها على طاولة التفاوض.
مها، التي نزحت إلى مصر قبل 14 شهرًا لتلقي العلاج من إصابة تعرضت لها في جباليا، تحمل جرحًا مزدوجًا: ألم جسدي سبّبته الحرب، وقلق روحي مزمن سبّبه البعد، وتقول لـ "الترا صوت" بمرارة: "لقد سئمنا الحرب لأكثر من عامين، تجرعنا فيها كل أصناف الألم والمعاناة، حتى حين نزحت إلى مصر للعلاج... لم تتركني المعاناة رغم الوضع الجيد نسبيًا هنا، إلا أن قلبي ظل معلقًا بقلب أمي وأبي في شمال غزة."
هذا القلق المتواصل على والديها في جباليا سبّب لها مشاكل صحية غاية في الصعوبة، هي تتمنى لو يتمكنان من القدوم إلى مصر لتلقي العلاج وقضاء فترة استشفاء مؤقتة، ثم يعودون جميعًا للقطاع، لينهوا هذا الصراع الداخلي الذي أنهكها. وتلخص مها معاناتها بهذه الكلمات المؤثرة: "في جباليا هناك تسكن روحي، وفي مصر جسدي، صراع مؤلم آن له أن يهدأ".
بينما يغلب الشوق قلوب الكثيرين للعودة الفورية إلى غزة، يقف البعض الآخر أمام باب العودة بحذر عميق وتوجس مؤلم
التريث الحكيم
ولهذا السبب، تميل مها والكثيرون ممن يشاركونها رؤيتها إلى التريث قليلًا، إنهم يفضلون انتظار ما يؤكد أن الحرب قد انتهت "بشكل كامل ونهائي" وأن مرحلة إعادة الإعمار قد بدأت فعليًا.
إنها معادلة صعبة: نداء الحنين يشدّهم إلى المخيم الذي ولدوا فيه، لكن الحكمة تملي عليهم أن بقاءهم في مصر هو درع حماية مؤقت، ريثما يصبح العودة إلى جباليا عودة آمنة إلى وطن يبدأ في مداواة جراحه.
مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، يجد النازحون الفلسطينيون أنفسهم في لحظة ترقب ولهفة عميقة. فبينما يصرّ البعض، مثل نور وحسام، على أن الحنين لتراب دير البلح وخانيونس يغلب كل الحسابات المنطقية، معتبرين العودة دعوة روحية لا تحتمل التأجيل، يرى آخرون، مثل مها أن الحذر حكمة واجبة.
إنهم يقفون عند مفترق طرق مؤلم، بين مطرقة الحنين وقوة العاطفة الفتاكة وسندان حسابات العقل الموجعة، إنهم ينتظرون ما يؤكد أن الاتفاق ليس مجرد "استراحة محاربين"، بل سلام دائم يبدأ معه ترميم الحياة من رمادها.
سواء انتصر نداء القلب الذي يقول: "في جباليا تسكن روحي، وفي مصر جسدي، صراع مؤلم آن له أن يهدأ"، أو انتصر صوت العقل الذي يفضل التريث الحكيم حتى تتأكد نوايا حكومة الاحتلال وتنجلي مخاطر استئناف الحرب، فإن المصير المشترك يبقى واحدًا: إثبات أن الغربة، مهما كانت كريمة، لا تعوّض دفء الوطن ورائحة ترابه.
في الأخير فإن هذه القلوب المنتظرة هي البوصلة الحقيقية التي ستقيس نجاح القمة الدولية في شرم الشيخ؛ فمتى استطاع هؤلاء الـ 200 ألف العودة بأمان واطمئنان لدفء الوطن وحضن جدران بيوتهم ولو كانت رُكامًا، حينها فقط، يمكن القول إن الحرب قد وضعت أوزارها حقًا.