1. ثقافة
  2. مناقشات

بينما تستطيع عائشة الطيران يفقد النقد جناحيه

16 أكتوبر 2025
عائشة لا تستطيع الطيران (شبكات تواصل اجتماعي)
عائشة لا تستطيع الطيران (شبكات تواصل اجتماعي)
منار خالد منار خالد

منذ سنوات ليست ببعيدة، تم اتهام فيلمٍ بأنه يسيء إلى سمعة مصر، وآخر في الوقت نفسه بأنه يدعم أفعالًا غير أخلاقية. كنتُ حينها أستعد لكتابة مقالاتٍ نقدية عن كلٍّ من الفيلمين، حيث التحليل النقدي المستند إلى منهجٍ يتطرّق إلى عناصر فنية من تصوير وإخراج وتمثيل وخلافه، شأنه شأن أيّ عمل فني آخر. ولكن حين ذاع أمر المشكلات الخاصة بالأفلام، أصبح هناك حتمية سابقة للنقّد، تتطلب من المختصّين أن يدافعوا عن الأعمال لا أن يحلّلوها، في محاولاتٍ جادّة لتنحية المسميات والتُهم عن عاتق الأفلام، والدفاع عن الفن بحريته، سواء كان فيلمًا جيّد الصُنع أم لا، فهذا أمر لا يتقاطع مع التهم المنسوبة إليه. وبالتبعية ضاع النقّد الفني بين ثنايا تلك المشاجرات، فلا وجود لصوت التحليل والتفكيك في ظلّ مدافعات واتهامات، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. حينها أدركتُ أن مهنة الناقد تختفي مع كل مشاجرة، ويضيع حق الفيلم والمجهود المبذول فيه. ثم شاهدت فيلمًا جديدًا نسبيًّا، لم أنكر على الإطلاق أنه لمس قلبي ووجدتُ فيه عناصر فنية غنية تستطيع أن تنتج مقالًا لا بأس به. وأثناء العمل عليه، فوجئتُ باتهاماتٍ لمخرجه بالتحرش، دون ثبوت صحة الاتهامات من عدمها. وبعد الكثير من محاولات الحيادية غير المنطقية، قررت أن يكون الموقف المُتبّع هو عدم الكتابة عن الفيلم وعدم دعمه، فلا حيادية في دعم عملٍ صاحبه موجَّه إليه مثل هذا الاتهام.

واختفى النقّد من جديد، ولكنني اعتبرته – حينها – موقفًا نقديًا في ذاته، فلا ملكية لأيّ سُلطة سوى تلك الكلمات التي أكتبها، أو أعلن موقفي خلالها. وبالتالي فهذا هو موقفي، وذلك لا يمنع غياب الصوت النقّدي التحليلي مرة ثانية أو ربما ثالثة، مع الشعور الحقيقي بالخذلان. فكيف لي ولكثيرين غيري أن نتأثر بتلك القضية الإنسانية المطروحة بالفيلم، نبكي ونتوحد معها، وفي الوقت نفسه صانعها يُشك بأنه ارتكب أفعالًا غير إنسانية؟ شعور بالتهديد الشعوري والفني، وكأن الفن مجرد حيلة، له صنعة لكنّه غير حقيقي، وغير نابع من وجدان صانعه، قبل أن يمتلك أدوات فنية ووعيًّا حقيقيًّا. وأخيرًا، ماذا عن "عائشة لا تستطيع الطيران" للمخرج مراد مصطفى؟

طيران عائشة المثقل بالجروح

النيّة ذاتها للكتابة النقدية عن العمل الفني الذي يمتلك من المحاور الكثير، وكأن صاحب العمل مهموم بكل شيء ويدفعه دفعة واحدة في فيلمٍ واحد: عنصرية، وأقليات، وتحرش، واضطهاد، وبلطجة، ولجوء، وبطلة العمل فتاة. عناصر تتناسب مع توجهات الكثير من المهرجانات العالمية، وعناصر فنية لا يمكن إنكار الاجتهاد فيها.

تُقدَّم رؤية بطلة العمل بأنها تستطيع الطيران أحيانًا لكن في حدودها، قادرة على التأقلم مع الظروف والطيران بثقلٍ شديد للذهاب إلى مكانٍ آخر أو عالم يبدو مختلفًا، لتجد نفسها تدور في الفلك نفسه. وكأنها تطير على قدر محيطها، مثلها مثل النعامة التي ظهرت كمقاربة لحالتها في الفيلم، أو قناع "باتمان" الذي ارتدته أثناء لعبة مع طفل، وهو أيضًّا ملصق (بوستر) الفيلم الدعائي، حيث التخفّي للحصول على جزءٍ بسيط من الطيران، بحيل تُبقيها فقط مجرد "عايشة، أو عائشة" دون تحليق. تطير في محيطها، لكن بجمود.

أما عن المشاهد التي تقدم القبح بصورته الفجة، فهي ليست على غرار تجميل القبح، بل هي فجاجة القبح وبلورته، بل والوصول إلى حدّ الغثيان المقصود أثناء الفرجة. وهي أساليب تتقاطع بين الغروتسك وقسوة الإخراج. لنلحق بتساؤل حول أسباب استخدام الأسلوب المنخرط في القبح، حيث معاناة لاجئة في بلد غير آمن ومجتمعٍ مستغلٍّ وهذا ما يتسق مع فكرة بزوغ القُبح على سطح الصورة. فربما بلورته وتضخيمه، خاصة في تصوير بعض الأماكن الخاصة بالمنشآت الحكومية وبعض الشوارع، لم يتسق واقعيًّا مع قُبح الصورة الفيلمية، إلا أننا لا نملك مناقشة الفيلم على محمل الواقعية أو محاكاتها، لأنه اتفق منذ البداية على تلك الصورة المبالغ فيها في كل شيء كأسلوب مُتبّع.

 فحين تُصادَر مساحة الكلام النقّدي والمنتقد، تتحول الكتابة النقدية إلى حالة من البوح عن الوضع القائم. وكأنه شكل من أشكال الدفاع عن "البديهيات"

مع الأسف، لم أتمكن من الانخراط في تحليل الفيلم أكثر من ذلك، وكأن المقاطعة ما زالت تطارد النقّد الفني بين حين وآخر. فمخرج العمل تراشق بالألفاظ مع الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي، وأكدّ لهم أن الفيلم لم يكن مصنوعًا من أجلهم. وأنّه وصل إلى مهرجان عالمي هام للغاية بحجم مهرجان "كانّ". وذلك مع الكثير من السُباب والتقليل من شأن الآراء المضّادة للعمل، بجانب ارتكاب أحد ممثلي العمل جريمة التحرش بفتاةٍ على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" فور مشاركتها لمنشور يتضمن نقدًا للفيلم. وبالتالي، فنحن ما زلنا ندور في الدائرة ذاتها، ونعيد القطيعة، ونقاطع نقديًا، والنتيجة؟ لا شيء يتغير!

متى أستطيع الكتابة؟

ثمة أفلام تضيع أهميتها بسبب اتهاماتٍ موجَّهةٍ لها، لا لأساس فني حقيقي يدعمها. وآخرون يرتكبون أفعالًا مشينة تتطلب من المرء موقفًا شجاعًا يتخلى فيه عن كل شيء نظير عدم دعم صُنّاع أفلام انتهكوا حقوق الجمهور.

هل يمكن أن أشرح في هذا المقال أهمية الجمهور؟ أم أعيد ترتيب الأوراق من البداية؟ هل يمكنني أن أشرح دائرة التلّقي للعملية الإبداعية من (راسل، رسالة، مرسل إليه)، وأؤكد بعدها أن الرسالة لم يُقصَد بها المضمون، بل بوضعها في هذه المعادلة كشيءٍ يتم إرساله ألا وهو الفن؟ أم أتطرق لشرح أن الفن بدون متلقٍّ لا يكتمل؟ هل أنخرط في قواعد محفوظة تسوقني إلى دور المعلم والموّجه الذي أكرهه؟ أم أقوم الآن بفتح الكتب والمراجع وآتي بكل جملةٍ تنصّ على أهمية الجمهور؟ أم أسير وفق كليشيهات المقارنة بين صُنّاع أفلام الجيل الحالي وجيل الزمن الجميل الذي طالما توقفت عند وصفه بالجميل واعترضت؟

سبق وكتبتُ الكثير عن أهمية دور الناقد واضطراره لفكّ معركة الاتهامات التي تُوجَّه إلى الأفلام، والآن أحاول ثانية أن أوّضح دور الناقد ودور الجمهور من جديد، وفقًا لصانع عملٍ تشابك مع جمهوره فقط لأنه أعلن عدم حبّه للفيلم.

ربما واجه المخرج التهمة نفسها الخاصة بالإساءة إلى بلده وفقًا لقبح الصورة الموصوف سلفًا، وربما لو لم يتجه المخرج إلى ذلك السبّ والتراشق، لانخرطنا من جديد في الدفاع عن العمل باعتباره عملًا فنيًّا يستطيع أن يجيب بنفسه عن الأسئلة. وهل سيُعاد اكتشافه مع مرور الزمن أم سيختفي مثل أعمال أخرى؟ ولكن لتعاسة الحظ المضاعفة، نحن الآن أمام هجومٍ إخراجيٍّ على الجمهور دون وجود مجالٍ لشرح ماهية الفيلم. وبالتالي لدينا موقف أخلاقي يحتّم عدم الكتابة النقدية عن الفيلم.

تنفيس في وقت اختناق السينما

أعتقد أن ما نستطيع أن نختم به مقالًا مثل هذا هو شيء غير توجيهي ولا إرشادي بالمرة، لكنّه محاولة فعلية لإعادة التفكير وتسمية الأمور بمسمياتها الصحيحة، لعلنا ننجو من ذلك المأزق الذي يورّط الناقد في دفاعاتٍ وشرحٍ ومقاطعة، ويورّط الجمهور في تلقي سُباب، ويورّط الأفلام في اتهاماتٍ. وكأننا بصدد قراءةٍ فعلية لا للأفلام بل للظروف التي تنتجها وتُنتج من أجلها. ففي ظل غياب التحليل النقدي للعمل الفني، فلا بأس من محاولة تفكيك المشهد المحيط، بتساؤلٍ جادٍّ مع الآليات ومحاولة تعريةٍ الكثير من السياقات، ومشاركةِ همٍّ مهنيٍّ حقيقيٍّ وشخصيٍّ إذا صح القول، لربما تُفيد حالة التنفيس.

فعبر أفلامٍ صورتها قاسية لواقعٍ سينمائيٍّ أشد قسوة، لا يسعنا إلا التنفيس. فحين تُصادَر مساحة الكلام النقّدي والمنتقد، تتحول الكتابة النقدية إلى حالة من البوح عن الوضع القائم. وكأنه شكل من أشكال الدفاع عن "البديهيات"، ومحاولة ترتيب الأوراق من جديد للجميع: حقوق الأفلام في أن تُرى، وحقوق النقاد في أن يفكروا ويحللوا، وحقوق الجماهير في المخاطبة والإعلان عن الرأي.

وبين الكثير من الغضب ومحاولات استعادة الوعي بالأشياء، ظهر خلالي الآن شكل مختلف عمّا اعتدت كتابته؛ كتابة تعرف أنها غير قادرة على إنقاذ الصناعة، ولا على استعادة حق الجمهور، ولا على عدم رؤية الفيلم دون شخصنة. لكنها لا تزال قادرة على مساءلة العالم وأخذ المواقف، لا بدافع الصدام بل بدافع حبّ السينما التي ألهمتنا الكثير من تجليات الإنسانية الحقيقية.

كلمات مفتاحية
المسرح الوطني الجزائري (الموقع الرسمي)

المسرح الثوري في الجزائر.. من الخشبة إلى النضال

تاريخ المسرح الثوري في الجزائر

إسكندر حبش

"العائد كل ليلة إلى حيفا".. إسكندر حبش يكتب وجع المدن ويرحل

وُلد إسكندر حبش في بيروت عام 1963 لأبٍ من اللدّ الفلسطينية، وكتب وجع المدن باحثًا عن الحلم الفلسطيني المفقود منذ النكبة

Saturday Night (Sony Pictures)

كيف يتمكن الكاتب من التركيز وسط المشتتات؟

نصائح تفيد في الابتعاد عن التشتت عند الكتابة

العراق
سياق متصل

الانتخابات البرلمانية العراقية.. حدود التأثير والتغيير

توقّفت في العراق، اليوم السبت، الحملات الدعائية للانتخابات العامة، تمهيدًا لتوجّه الناخبين، يوم الثلاثاء المقبل، إلى صناديق الاقتراع لاختيار برلمان جديد

غلاف الكتاب (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)
نشرة ثقافية

علي وطفة يبحث مفهومي "الاغتراب" و"التشيؤ" من منظور ماركسي

كتاب: "من الاغتراب إلى التشيؤ في منظور كارل ماركس: "التشيؤ" منهجًا ماركسيًّا لتحليل الرأسمالية ونقدها"

لوحة "قراءة الشعر" لميلتون أفيري عام 1950 (شبكات تواصل اجتماعي)
أدب

في أوقات الأزمات.. هل تصبح قراءة الشعر وكتابته ضرورة أم رفاهية؟

قراءة الشعر وقت الأزمات

جوهر بن مبارك
حقوق وحريات

إضرابات جوع في السجون التونسية احتجاجًا على الاعتقال التعسفي وانتهاك الحرّيات

التحق رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي بالمضربين عن الطعام في السجن، دعمًا للسجين السياسي جوهر بن مبارك، القيادي في جبهة الخلاص