11-مارس-2016

بيروت تفاحة (AP)

قلتُ

مبكّرًا أن أهدي لكِ شيئًا

لطالما اعتدتُ الكتابة عما خسرتهُ

أو

عمّا أحبُّ أن أربحهُ

وَكَانَ ذلك مبكرًا جدًا

مثل الوقتِ الذي جئتُكِ فيه.

/

 

لو كنتُ ابن مدينةٍ

كنت سآتيكِ في الوقت المناسبِ

لا مستعجلًا ولا متمهلًا

كنت سأعرفُ كيف يمشي النَّاسُ في الشوارع بشكلٍ طبيعيٍّ

كيف لا تثيرهم الموسيقى

وكيف لا يقطعُ شرودَهم الطويل

سوى نظراتهم المستغربة

لوقفتي المتسمّرة تحت مبنى جريدة النهار

أمام تمثال سمير قصير

أو قرب مقهى الـ كوستا

قبالة صورة صباح الضخمة.

/

 

لو أنني كنت ابن مدينةٍ

بحريّةٍ

كنتُ سأتعلّمُ السباحة باكرًا

أنا الذي لطالما تذرّعتُ:

"في البحر شيء آخر سوى السباحة".

كنت سأقتني أقلامَ حبرٍ بدل أقلام الرصاص التي أحبّها

وسأعرفُ

على نحوٍ كبيرٍ

أن المدى الأزرق أمامي

مفتوحٌ للخصوم أيضًا

ويمكنُ للبشريّ

وهو يمشي في الشارع

أن يقف ليسلّم على الذين كانوا قبل أعوامٍ

يرفعون المتاريس في وجهه.

لو أنني ابن مدينةٍ

كنت سأشكّ أكثر: قد يَكُونُ وجهي مستفزًّا!

/

 

لو أنني كنتُ ذلك الشاب

الذي يعرف ألوان وأسماء وأشكال الأسماك

لما تأخرت في تقبّل السوشي.

ولعرفتُ أن النساء أيضًا

يتعرّقنَ، ولعرقهنّ ملوحة ورائحة مثل الرجال تمامًا

وأن الغياب مهما طالَ

لا يعني سوى حقيبةٍ صغيرة

فرشاة أسنانٍ ومنشفة مربّعة

وقميص مشجّر

وثياب داخليّة كثيرة

تحسّبًا للنساء العابرات

لو أنني كنتُ ابنَ مدينةٍ

لعرفتُ يا حبيبتي

أن هنالك نساء عابرات!

 

لكنني جئتُ من هناك

يقولون عني من الجبال

من الأماكن التي يظنّ أناسها

أنهم سوف ينقرضون

فيتنحون جانبًا

مع ماعزهم وطيورهم الجارحة

وضباعِ حكاياتهم

ويقضون عمرًا طويلًا

ينامونَ عند الوصول إلى الخروف الثلاثين.

 

هؤلاء الذين هم أهلي

الذين يسمعونَ فيروز

لأنها ليست جزءًا من حيواتهم اليومية

بطيئون جدًا

وينظرون إلى السماء أكثر من الأنبياء

ولكنّهم لا يعدون أحدًا بالحريق.

/

 

ولدتُ هناك،

في اللغة الصخرية

التي لم تكن عاطفيةً

ولا شفافّةً

ولم أعرف يا حبيبتي

أن البحر ليلكيّ.

/

 

تأخرتُ

حتّى رأيتكِ

..

 

كنتُ منشغلًا

عنكِ

بالبحثِ في أرشيف مدينةٍ ميّتة

أفتّش في حوانيتها

في التكيّة السليمانية وسوق الخجا

وفي شارع القميرية

بين شبابيك البيوت الصغيرة وأبوابها العالية

أفتّشُ

في ألبوماتها

عن صورةٍ تبدو فيها مبتسمةً منذ نصف قرن.

/

 

تأخرتُ

حتى رأيتكِ

..

 

نحن الذين لم نخف على أنفسِنا كثيرًا

ولم نخف من أنفسِنا كثيرًا

كنّا نخافُ منكِ

ولشدّة ما كان الجنرالات قساةً

قالوا لنا إن فيكِ يختفي شبابٌ كثيرونَ

ثمّ يرجعونَ أبطالًا بصناديق خشبية

ولشدّة ما كنّا حمقى

كنّا نصدقهم.

/

 

تأخرتُ

حتى رأيتُكِ

..

 

منكمشًا على روحي

مرتجفًا مثل سمكةٍ

وخجولًا

جئتُكِ باكيًا

وظننتُ -لشدّة ما كنتُ ساذجًا-

أنكِ ستربّتين على كتفيّ

وستأخذين مني حقيبة السفر الصغيرة

وتطبخين لي، وتمسحينَ دموعي.

 

لو كنتُ ابنَ مدينةٍ

يا حبيبتي

لعرفتُ أنكِ

لستِ أمي لتفعلي كل هذا!

/

 

تأخرتُ

حتى رأيتكِ

..

 

عشتُ عمرًا مع الخراف في بيوتٍ واحدة

كان عسيرًا أن أعرف

رائحة مدينةٍ في السرير!

 

لكنني

وعلى غفلةٍ

في ستة عشر شهرًا فقط

كبرتُ كلّ هذه السنينْ

لم أعد خجولًا مثلما عرفتِني

رجلٌ بشعرٍ يبيضّ يومًا بعد يوم

بوزنٍ زائد

يحبّ الموسيقى أكثر من الرقص

والنساء أكثر من الحبيبة

وصندوق البريد الذي يحملُ كتابينِ صغيرين

أكثر من العقد الفريد وويل ديورانت

يفضّل بطاقة الائتمان

يحاولُ تعلّم الهوكي

والتزلج على الثلج

ويعيش طويلًا مع الطيور والأشجار التي لا يعرف أسماءها

ورغم الجرح الغائر،

هناكَ

تحت قميصه الأبيض الوحيد

تجدين قلبًا لم يعد يُصاب بالألم

ولكنّ التدخين يسدّ شرايينه.

يمرض أمراض البشر الطبيعيين

يصابُ بالإنفلونزا مرتين سنويًا

ولديه في بيتهِ

الذي لم يعد يعنيهِ مكانهُ

زجاجة كونياك

وصندوق نبيذ

ولوحتان لفان غوخ وسيلفادور دالي

وفي خزانتهِ وحقيبته

عطورٌ

وأشياء يُمكنُ أن يحتاجها

مع امرأةٍ عابرة.

/

 

لم أعد خجولًا كما عرفتِني

رغم أنني

ما زلتُ حتى اللحظة

أشعرُ أنّ شراييني تعملُ

أكثر مما ينبغي

كلّما اقتربت الطائرة من البحر

أثناء هبوطها

في كلّ مرةٍ آتيكِ فيها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عالم الوجبات السريعة

ليس في جيبي سوى الكلام