05-أغسطس-2020

انفجار بيروت (Getty)

أمسِ أجمع العالم كله على إعلان بيروت مدينة منكوبة، والنكبة مفردة استقرت في وعينا نحن أبناء هذا الشرق المتخم بالنفط والدماء منذ أن ردّدها الأجداد غداة اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، مرورًا باستيطان النكبة معظم العواصم العربية على فترات متقطّعة ومتلاحقة، إلى أن حطت رحالها أمس في بيروت.

كل ما حدث منذ أن سكتت مدافع الحرب الاهلية وصُوِّر على إنه إنجاز ينسب إلى الفرادة اللبنانية قادنا إلى هذا القعر اللانهائي

ونكبة بيروت الجديدة تنافس القدس وصنعاء ودمشق، إذ إنها تعلن ما بات معروفًا عن معنى العدو. فليست إسرائيل وحدها العدو، ولا الاحتلال، ولا الدكتاتوريات.. بقدر ما هو الضد الذي تحمله بلادنا في داخلها، ويقتل كل يوم أي محاولة لاستتباب حياة آمنة وكريمة في هذه البقعة من العالم.

اقرأ/ي أيضًا: نكبة بيروت: ما الذي يجعل الأسمدة النتروجينية قنابل موقوتة؟

المعروف أيضًا أن نكبة بيروت لم تبدأ بالأمس. في البدء سُحقت بيروت لأنها سعت لأن تكون سند القدس وظهرها في عملية التحرير، وخُنقت بيروت عندما فكرت بأن تكون الرئة الحاضنة للهواء الدمشقي الهارب من صلف الدكتاتور. وإذا كانت السردية اللبنانية تجزم بأن بيروت نفضت عنها غبار الحرب وقامت كالعنقاء من الرماد إلا أن الحقيقة غير ذلك. فكلّ ما حدث منذ أن سكتت مدافع الحرب الاهلية وصُوِّر على إنه إنجاز ينسب إلى الفرادة اللبنانية قادنا إلى هذا القعر اللانهائي. فالزعماء الستة، حاكمو الجماعات اللبنانية، أنتجوا بلدًا غير قادر على معالجة نفاياته منذ أكثر من خمس سنوات، وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي اجتاحت أحراجه النيران فأتت على الأخضر واليابس، وفي شتاء العام نفسه غرقت بنيته التحتية بالأمطار. بلد يعاني من شتى صنوف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويرزح تحت مديونية عالية. وخلال الشهور الماضية نزلت شرائح واسعة من اللبنانيين إلى الشارع مطالبة بحقها في الحياة، لكن لم يسفر حراكها عن أي تغيير يذكر. أمام هذا الاستعصاء لا بد من سردية مختلفة وإلا كيف وصلنا إلى هذا الحال؟

الحقيقة أننا جميعًا مذنبون، أو قل إن أكثرنا متواطئون، لقد ارتضى اللبنانيون واقع أزماتهم المعيشية كأنها قدر لا يعالج إلا بالهجرة إلى مشارق الأرض ومغاربها. وكنا على مدى أكثر من قرن ولا نزال نهاجر إلى دول العالم كحرفيين وأطباء ومهندسين وتجار وعاملين في كل مناحي النشاط الإنساني، نعمل ونبني ونؤثر في مجتمعاتنا الجديدة دون أن يكون لذلك أي تأثير في بلدنا الأم سوى إرسال الأموال، كي يبتلعها قطاع مصرفي تبين أنه قطاع لصوص خلال آخر فصول الازمة، وأنهم فعلًا سرقوا أموال الناس ومدخراتهم.

إذًا نحن أمام معضلة العين والمخرز مجددًا، المخرز الذي تقبض عليه عصابة من الأوغاد، ترعى الأغذية الفاسدة والماء المسرطن والهواء الملوث. عصابة كأنها أخطبوط ضخم أذرعه هي أجهزة الدولة المدنية والعسكرية وجيوش من الزبانية والعبيد، يزهق أي إمكانية لحياة كريمة، ويقتل أي رجاء بوطن طبيعي، ويقتات على الأزمات، وإحدى تداعيات كل جريمة من جرائمهم هي المزيد من الهجرة، وبالتالي استدامة نظام العفن الأوليغارشي.

يعمل اللبنانيون ويؤثرون في المجتمعات التي يهاجرون إليها، دون أن يكون لذلك أي تأثير في بلدهم الأم سوى إرسال الأموال، التي يبتلعها القطاع المصرفي

بالعودة إلى انفجار أمس، من نافل القول إن نظامًا بني على آلام اللبنانيين ودمائهم قد يعبأ بهذه الجريمة-الفضيحة. ومهما كان سبب شرارة الانفجار لا يستطيع أي عاقل أن يبرر تخزين كميات هائلة من مواد شديدة الانفجار لوقت طويل (4 سنوات على أقل تقدير) في مرفأ يقع في القلب من العاصمة وتحيطه أحياء سكنية على بعد مائة متر. ومن غير المعقول أن ننتظر من نظام كهذا اعترافًا بالفشل أو محاسبة المتورطين، وفي الوقت ذاته بات المشهد مملًا ومحبطًا أن ننتظر سقوط أهلنا وأحبائنا ضحايا لهذا العبث الجنوني إما قتلًا أو تهجيرًا. فما العمل؟

اقرأ/ي أيضًا: ما هي نترات الأمونيوم التي سببت انفجار بيروت المدمّر؟

اليوم وقبل تشييع الشهداء علينا أن نحفظ مشهد انفجار بيروت جيدًا، أن نحرسه ونعلقه كتعويذة على عتبات البيوت، علينا أن نعلم أطفالنا أن هذا ما يحدث للأوطان عندما يستبيح الأوغاد حياة الناس وأحلامهم، عندما تركع الكرامة أمام العار وعندما نقاد من أعنتنا كالبهائم إلى مسالخ لقمة العيش اليومية. أما في الغد فلن يكون غدٌ طالما نار الثأر ظمأى وطالما أننا لا ننشد مع أمل دنقل :

سَقطَ الموتُ؛ وانفرطَ القلبُ كالمسبحة.

والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!

المنَازلُ أضرحَةٌ،

والزنازين أضرحَةٌ،

والمدَى.. أضرحَةْ

فارفَعوا الأسلحة

واتبَعُوني!

 

أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحة

رايتي: عظمتان.. وجمجمة،

وشِعاري: الصَّباحْ!

بالطبع، لم نكن بحاجة لهذا الانفجار لكي ندرك حجم محبة الناس لبيروت. الاتصالات التي تلقاها الجميع من أصدقاء ومعارف عرب وأجانب كفيلة بإظهار الموقع المتقدم الذي تحتله هذه المدينة وهذا الشعب في قلوب الكثيرين. وجعل الكثير يتساءلون هل جنينا على أحد ليصيبنا هذا البلاء؟ الجواب كلا، إنها زمرة الاوغاد الستة من يكره لنا ولهذا البلد الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مستشفيات بيروت تفقد قدرتها الاستيعابية ومخاوف من كارثة

بيروت مدينة منكوبة: انفجار "رهيب"