13-أبريل-2017

بيت بيروت يوم افتتاحه من جديد (فيسبوك)

كانت الحرب الأهلية اللبنانية وكان على امتدادها طول الشقاء، خمس عشرة عاماً من العذابات والآلام؛ تهجير وقتل على الهوية ومئات آلاف الضحايا والمخطوفين والمغيّبين دون تباشير بنهاية مأساة ذويهم حتى اليوم.

"بيت بيروت" كان خطاً للتماس زمن الاقتتال، تُرك على حاله ليبقى شاهدًا على التاريخ وجزءًا من الذاكرة

السِلم الذي أعقب توقف الأعمال العسكرية بين الأطراف المتقاتلة ووحّد شطري العاصمة بيروت بجانبيها المسلم والمسيحي إثر توقيع اتفاق الطائف مطلع العقد التاسع من القرن الماضي، شهد عملية مسح لندوب الماضي. إعادة إعمار رمّمت ما هدّمه التناحر و"رتقت" ما نخره رصاص التحارب في الجسد اللبناني فنفخت فيه الروح من جديد. لكن الذاكرة ظلت مثقلة بمخزونها من صور الموت وروائحه وأصواته، لتستعيده بين الحين والآخر على مضض تختصره مقولة "تنذكر وما تنعاد".

اقرأ/ي أيضًا: لم تنتهِ الحرب الأهلية اللبنانية بعد

في الثالث عشر من نيسان/أبريل، الذي يصادف اليوم وفي كل عام مثل هذا اليوم، رجوعاً نحو العام 1975 ومروراً بكل ما تلاه وما سيليه، يسترجع القلب اللبناني ما عاناه فيخفق بوهن. من القاتل ومن القتيل، من انتصر على من، وهل تختصر الأرقام فاتورة الدم الباهظة التي دُفعت؟

العاصمة بيروت التي أُعيد ربط شوارعها لتصبح سالكة في كل الاتجاهات، غرباً نحو المناطق ذات الغالبية المسلمة وشرقاً نحو المناطق ذات الغالبية المسيحية، تعافت من الخوف، بعد أن أُزيلت المتاريس وتوقف إطلاق النار وعادت مختلف مكونّاتها إلى التعايش مع بعضها البعض. فيما انسحبت بعض الميليشيات من الميدان إلى السياسة لخوض حروبٍ من نوع آخر.

عن تلك الأيام بنهاراتها المظلمة بالرعب ولياليها التي أضاءتها النيران المشتعلة، شواهد متفرّقة في العاصمة بيروت على واحدة من أسوأ صفحات التاريخ ضمن مساحة جغرافية صغيرة مكدّسة بالبنيان ومتداخلة في السكن بين الطوائف والمذاهب، ظلّت حاضرة لتخبر حكايات الموت البطيء المتنقل بين البيوت والملاجئ وخطوط النار، والسريع برصاص القناصة لصوص الحياة في زمن الأحقاد. إحداها بناية "بركات" أو "البيت الأصفر" أو ما بات يُعرف اليوم بـ "بيت بيروت".. المبنى الذي يقبع على زاوية ما كان خطاً للتماس والاقتتال وهو يلتمس اليوم محبة اللبنانيين برسالة ضمّنه إياها من عملوا على تدعيمه ليدعّم بدوره الذاكرة بصورٍ أحدث عن التواصل والانفتاح بين أهل "البيت الواحد".

البناية ذات الطبقات الأربع بُنيت على مرحلتين، الأولى في العام 1924 والثانية في العام 1936. وهي تحمل كل الخصائص العمرانية لتلك المرحلتين. سقوف عالية وقناطر داخلية وخارجية، وشبابيك واسعة تُشرّع مداخلَ للهواء من مختلف الاتجاهات. وقد تناوب على الإقامة في مختلف الطبقات عائلات بيروتية مختلفة، ترك عدد كبير منها أغراضاً خاصة في العليّات من بينها "نيغاتيف" صور لمناسبات عائلية قديمة فتم الاحتفاظ بها لتكون مادة عرض دائمة في المكان.

اقرأ/ي أيضًا: مي شدياق.. عنصريات الحرب الأهلية باقية وتتمدد

عند اندلاع الحرب، ونظراً لموقعه في نقطة الوسط بين منطقتين متمايزتين طائفياً، نال بيت بيروت نصيبه من القذائف لكنه ظل متماسكًا

عند اندلاع الحرب، ونظراً لموقعها عند تقاطع السوديكو ـ بشارة الخوري، أي في نقطة الوسط بين منطقتين متمايزتين "في الأغلب" طائفياً، نالت بناية بركات نصيبها من القذائف والرصاص. ثم تسلل إليها مقاتلون، ورفعوا السواتر الترابية في طبقاتها وأحدثوا في جوانب متفرقة من جدرانها ثغرات أو استصلحوا أخرى لتمرير فوهات بنادقهم وإطلاق النار على المارّة أو من يلوح لهم في هذا المبنى أو في ذاك الشارع.

مرّت السنوات وأصاب المبنى ما أصابه من تشويه "بليغ"، لكنه ظلّ متماسكاً نسبياً. نجا من قذائف الحرب، ومن جرافات السلم التي مسحت معظم المباني القديمة ورفعت على أنقاضها أبنية حديثة فخمة. وما ساعد في ذلك حملات المجتمع المدني وقيام بلدية العاصمة باستملاكه في العام 2003، لتَشرع بعد ذلك في عملية ترميمه، أو تدعيمه بتعبير أصحّ، ليبقى على حاله كجزء من الذاكرة.. لكن بمنحى آخر.

افتتحت بلدية بيروت ومؤسسة إيناس أبوعياش الخيرية مكتبة المبنى رسمياً بالأمس عشية ذكرى اندلاع الحرب. من الداخل كما في الخارج لم ينل من المكان أي تغيير لافت. حتى كتابات المقاتلين لم تُمحَ عن الجدران. فما أُنجز هندسياً لم يظهر للعيان تماماً، محافظاً بذلك على طابع الحرب في مبنى بات اليوم يبعث على الحياة، لا سيما مع إضافة مبنى آخر إليه، يُقدّم نقيضاً في العمران والحداثة لكنه امتداد للاستخدام.. ليشكلا معاً فسحةً ثقافيةً تضم مرصداً مدنياً ومركز أبحاث وتُقام فيها الندوات والمعارض الفنية. ويُخصص جزء منها لإثراء مكتبة تعرض من ضمن ما تعرضه الكثير عن تاريخ بيروت بحلوه ومرّه. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

نفايات الحرب الأهلية

عن الموت وممارسة الجنس في زمن الحروب