"بيت الجاز" لنورا ناجي.. رواية التكامل الفني
26 يوليو 2025
"ظلت هذه الأقصوصة من صفحة الحوادث ماثلة أمام عينَي رضوى ثلاثة عشر عامًا. "تفتتح الكاتبة المصرية نورا ناجي روايتها الأحدث "بيت الجاز" (دار الشروق، 2025) بهذه الجملة الخبرية، ليجد القارئ نفسه ومن الصفحة الأولى مُحاصرًا في مثلث جغرافي غريب يتكون من بيت وكوبانية الجاز، مستشفى الجذام، والمقابر.
ثلاثة أماكن محورية ضيقة كتبت فيها نورا ناجي روايتها الأحدث، بحساسيةٍ عاليةٍ وتوظيف مختلف لتقنية الأصوات، حيث تتنقل الأحداث ما بين الرواية، الكاتبة، والحقيقة.
في الفضاء السردي الذي يشبه السجن الأبدي لبطلات الرواية لا تخرج أي شخصية من مصيرها الواقعي إلا بالخروج خياليًا من حيز المكان المخلوقة فيه. ففي صـ 103 تقول الراوية تحت تأثير الشعور بالذنب: "كان يمكن أن تكون مكانها، كان يمكن أن تكون هي مرمر ومرمر هي. فرق أمتار فقط ما يفصل بين حياتيهما".
يظهر في الرواية، هواجس اللاوعي الفني المعني بمشكلات صوت الكاتبة داخل النصّ، على عكس روايتها السابقة "سنوات الجري في المكان" التي حملت في طياتها – بشهادة الجميع – انضباطًا فنيًا أكبر من حيث البناء/التقنية، الفضاء السردي والزمني، والمشاكل والصدمات الخاصة بكل شخصية، في حين نجد في بيت الجاز تشوشًا حسيًا منقولًا بدقة طبيعية تجعله أكثر نفادًا إلى القارئ. هذا التشوش الذي ينتج بسبب طبيعة الشخصيات التي لا تكتمل إلا بالانتهاء من صفحات الرواية.
كما نجد هنا أيضًا توظيفًا مختلفًا لتقنية الأصوات، مقارنة بأعمال سابقة أخرى للكاتبة، مثل: "بنات الباشا" و"أطياف كاميليا" اللتين يشتركا مع "بيت الجاز" في مشاركة الفضاء السردي عينه وهو مدينة طنطا، بالإضافة لوقوع حادثة مفاجأة منها تنفجر الأحداث، ولكن على العكس من الروايات السابقة المذكورة، نلحظ هنا أن لكل بطلة أزمة خاصة، متفجرة داخل حياتها الشخصية. وهذا ما يجعل "بيت الجاز" تبدو وكأنها رواية داخل رواية داخل رواية، وهو ما يثبت نجاح نورا ناجي في التحدي الذي فرضه عليها النجاح النقدي والجماهيري لروايتها "سنوات الجري في المكان"، رغم غيابها عن أي قائمة من قوائم الجوائز الأدبية الكُبرى التي قد تفوت في بعض الأحيان تكريم الأدب الجاد من أجل الأدب الذي يتسم بالتفاهة.
نجد هنا أيضًا توظيفًا مختلفًا لتقنية الأصوات، مقارنة بأعمال سابقة أخرى للكاتبة، مثل: "بنات الباشا" و"أطياف كاميليا" اللتين يشتركا مع "بيت الجاز" في مشاركة الفضاء السردي عينه وهو مدينة طنطا
نعود لنقطة المقارنة وارتباط مشروع نورا ناجي بشكل تسلسلي. ففي "بنات الباشا" و"أطياف كاميليا" أبرزت الاختلافات التباينية، عمق الشخصيات مما ساهم في حل ألغاز الروايتين "موت ناديا " و"اختفاء العمة" ومما خلق داخل الأعمال المذكورة اختلافات واضحة في الصوت/التقنية وطريقة تعبير كل شخصية عن أفكارها.
أما في "بيت الجاز" فلا تتشابه تقنية الأصوات هنا مع أية رواية أخرى من روايات الكاتبة، لاعتمادها هُنا على خلق شخصياتٍ تكامليةٍ، لا تتضح الرواية بها إلا مع اكتمال مصائرهن. وكذلك نجد أن التشوش اللحظي الذي يُصيب القارئ في البداية وأثناء القراءة، إنما ينتج عن تشابه الشخصيات في البيئة الاجتماعية والمراحل العمرية. وكذلك على المستوى الثقافي، بلا فروق كبرى ظاهريًا، ولكننا نجد الاختلافات في عمق الشخصيات الروائية مما يُبرز تطور التقنيات السردية والألعاب الفنية في المشروع ككل.
في صـ27، تذكر نورا على لسان الكاتبة رضوى محفوظ بطلة الرواية، عبء الانشغال في الحياة الثقافية، المقارنات، السفر لندوات لا تقول فيها شيئًا جديدًا، قراءة مسودات الأصدقاء وحضور ندواتهم ونقاشاتهم، ولكن في صـ 57، تعود الكاتبة لتحسدهن على حياتهن الممزقة التي تمنحهن ما يكتبن. هذا التكامل بين ضدين مثل الين واليانج، هو ما يعزز صيغة التكامل الروائي داخل النصّ، وستُضيف في صـ 67: "من أجل الكتابة ستتقمص حياة أخرى قاسية رغم أنها لم تعانِ، وستتحول شيئًا فشيئًا إلى امرأة أخرى".
وبمد هذا الخط على استقامته، ومن العنوان المكون من البيت/المأوى/الملاذ، أو الساتر الحافظ للخصوصية بعيدًا عن العيون وصولًا إلى الجاز السائل الذي انقرض من قوائم الاستهلاك الأساسية أو الإضافية مع التطور التكنولوجي، نجد فرضية التباين والتكامل تشمل أيضًا هذا العنوان.
لا يشمل بيت الجاز أي صفة أساسية من صفات البيت، فهو أقرب لزجاج شفاف يكشف كل شيء كما جاء على لسان إحدى شخصيات الرواية، أما الجاز، أداة الطاقة الذي كان يستخدم عادة بشكلٍ أساسي في الإنارة، فإننا نجده هنا مصحوبًا بصفة الظلام داخل النص سواء من خلال الوصف الذي يأتي على لسان سكان البيت الذين يعيشون في ظلام شبه دائم بعد هبوط الليل أو حتى بمقارنة الحياة داخل بيت الجاز وبيت يُمنى بطلة الرواية التي تعيش في المنزل المقابل الواسع والمُنير.
الجغرافيا هي القدر
المثلث الجغرافي المتقارب يُضفي تضادًا كبيرًا على حيوات أبطال النصّ، فبينما تنجح يُمنى ظاهريًا في نيل حياة عادية. تتعلم وتدخل كلية الطب، تتزوج وتُنجب، تخطئ وتتراجع. تتلاشى حياة البنت الأخرى التي تعيش في المنزل المقابل لها، تتطاير كالجاز بلا أدنى تدخل منها. تخسر كل شيء تملكه. تخسر حياتها بأكملها، نتيجة خطأ لم ترتكبه. تموت مرمر فتاة ببت الجاز وتعيش جارتها طيلة حياتها بالإحساس بالذنب العميق، كما لو أنها كانت من الممكن أن تمنحها حياتها، بينما تعيش الكاتبة في مكانٍ ليس بالبعيد عن بيت الجاز والبيت المقابل له. فتحصل على حياة مختلفة تمامًا، تشعر بأنها لم تعانِ بما يكفي ككل زميلاتها أو أبطال أعمالها.
كل هذا الثقل الشعوري تتخفف منه الشخصيات الروائية بالحكي سواء كانت شخصيات درامية أساسية وفنية أو حتى ثانوية. نجد تميز تقنية الصوت هنا، كونه خليطًا ما بين الفني الجمالي والإنساني الضروري. أو كما تقول في رواية بيت الجاز: "لأن الكتابة قاسية، عليها أن تعري نفسها، وتعري ما حدث أيضًا، الكتابة أقسى من الحياة".
تقاطعات وتشابكات
كعادة الكاتبة نجد تقاطعًا بين روايتها الأحدث مع أعمالها السابقة. إشارات بسيطة ولكنها تُشير لترابط المشروع ككل كونه مشروعًا أدبيًا متعدد الألوان، متنوع ما بين القصة والرواية والمقال وحتى التدوين على الفيسبوك. كل هذا لا يفقد اتصاله ببعضه البعض كونه وسيلة للتعبير عن هموم الفرد الواحد وعلاقته بالمدينة الهامشية والعاصمة، وعلاقته الشخصية مع العالم من منظور فلسفي. فنجدها تقول في الراوية ذاتها: "المشاهد التي يعرضها الفيسبوك كل يوم من حول العالم، لأطفال ميتين، وأمهات، يجثون أمام الأكفان، أو يصرخن ويبكين، أو يبحثن عن أطفالهن بين الجثث في المستشفيات المحترقة المهدمة، تبكيها".
كل هذا الثقل الشعوري تتخفف منه الشخصيات الروائية بالحكي سواء كانت شخصيات درامية أساسية وفنية أو حتى ثانوية
يأتي ذِكر عدة أعمال أدبية مختلفة هُنا على عكس العادة. أعمال ربما تأثرت بهم الكاتبة، مما أثر في تشكيل وعيها الفني، وربما تكون الأعمال التي دفعت نورا ناجي للكتابة من الأساس كونها أشارت لألف ليلة وليلة، الجريمة والعقاب، الثلاثية، الحرافيش، الطنطورية. وبعض الإشارات لأعمال أحدث ربما كلها شكلت لها تعريف الروايات الكاشفة التي تمثل جوهر الكتابة باعتبارها ألمًا محضًا.
نورا ناجي هي روائية مصرية، من مواليد طنطا عام 1987. تخرجت في كلية الفنون الجميلة – قسم هندسة الديكور. صدرت لها ست روايات، منها: "بانا" 2014، "بنات الباشا" 2017 التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس، "أطياف كاميليا" 2020 الفائزة بجائزة يحيى حقي، "سنوات الجري في المكان" 2023. كما صدر لها كتاب "الكاتبات والوحدة" 2020، والمجموعة القصصية "مثل الأفلام الساذجة التي حازت عنها جائزة الدولة التشجيعية.