08-فبراير-2021

الكاتب النمساوي بيتر هاندكه (Getty)

يحيل مصطلح "التعب" بطبيعة الحال إلى تجربةٍ شعورية، توصف عادةً بأنها واحدة من أعمق التجارب الإنسانية المعاشة. ويحيط بهذا المصطلح، في الوقت نفسه، وعلى وضوحه، هالة من الغموض وشيءٍ من الالتباس، مصدرهما غالبًا صعوبة تقديم تعريفٍ وافٍ له، لكونه مصطلح ينطوي على أشكالٍ ونماذج وصورٍ مختلفة، تحول دول الوصول إلى تعريفٍ شامل وقابل للتعميم، لأنها في الأساس لا تسمح له بأن يكون شكلًا أو شعورًا ثابتًا، بحدودٍ وملامح واضحة يمكن الإحاطة بها.

يحاول بيتر هاندكه في كتابه "عن التعب" أن ينقل إلى القارئ انطباعاته الحميمة والخاصة حول التعب بمختلف أشكاله وصوره

يمكن إعادة السبب أيضًا إلى أن ما يشير إليه مصطلح التعب، هو شعور/ تجربة متحركة، لا يمكن الإحاطة بها على نحوٍ متكامل، وأن هذه التجربة، وإن شاركتها أخرى التصنيف ذاته، إلا أنها ستُحافظ، وإن بدرجاتٍ متفاوتة أيضًا، على خصوصيتها وفرادتها، لا لأن للتعب نماذج وأشكال مختلفة، وإنما لأن هذه النماذج ذاتها تختلف بين تجربة إنسانٍ وآخر، مما يجعل من وضع تعريفٍ عامٍ وشاملٍ للمصطلح، ضربًا من ضروب العبث.

اقرأ/ي أيضًا: جيرترود بيل.. المرأة التي صنعت العراق

يبدو الكاتب النمساوي بيتر هاندكه (1942) في كتابه "عن التعب" (دار صفصافة، ترجمة رضوى إمام، 2019)، واعيًا بصعوبة الإحاطة بالتعب، وتقديمه إلى القارئ بشكلٍ يكون عنده واضحًا دون لبسٍ أو غموض. لذا، اختار الابتعاد عن المسارات التي تتطلب وضع تعريفاتٍ عامة وشاملة للتعب قبل الحديث عنه، لصالح سرد تجاربه الشخصية معه بطريقةٍ تتيح له التقاط أشكاله وصوره المختلفة. بجملةٍ أخرى، يحاول هاندكه أن ينقل إلى القارئ انطباعاته الحميمية حول التعب، ويُراهن على تقاطع هذه الانطباعات ولقائها بتجارب القارئ الشخصية مع هذا الشعور، ليبيّن له ما يسعى إلى قوله عبرها.

يميز بيتر هاندكه بين تعبٍ طيب وآخر خبيث، أو بين تعب الـ "أنا" بمفهومها الضيق، وتعب الـ "نحن" بمفهومها الواسع. ينطوي التعب الأول على قدرٍ من المعاناة، ويبدو أقرب إلى مرضٍ خبيث يشوّه محيط الفرد المُصاب به، ويتحكم بطريقة نظره إليه وتفاعله معه، بل ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى خطفه منه وعزله عنه.

ويرتبط التعب الخبيث بالشعور بالذنب الذي ينتهي إلى حالة من الضيق الشديد، تتحول عادةً إلى نوعٍ غريبٍ ومختلف من الغضب. ويشير صاحب "المرأة العسراء" إلى أن هذه المشاعر، في حال تراكمها وتفاعلها مع العزلة أو الوحدة وما تفرزه بدورها من تعبٍ اختبره خلال سنوات دراسته؛ سينتج عنها شعورًا بالسهاد الذي يحوّل الوجود إلى نُكتة، ويجعل جميع أنشطة الحياة عبثية لا طائل منها، ويُقدّم مشاعر الحب، على اختلافها، باعتبارها ممارسات وأفعال منافية للعقل.

ثمة صورة أخرى للتعب الخبيث، ترتبط هذه المرة بالعلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة، ويقدّمها هاندكه باعتبارها حالة قريبة من "الظواهر الفيزيائية"، أو نوع من الانشقاق الذي يشير إلى حدوثه افتراق طرفي العلاقة فجأة، وبلا رجعة.

ويصف بيتر هاندكه هذا التعب الغامض والمُشتت والمُتقلّب أيضًا، بأنه شكل من أشكال النفور أو الغربة، وربما شكل من أشكال الحمل الثقيل أيضًا، الذي يتمخض عنه عزوف الطرفان عن تبادل النظرات والكلمات أول الأمر، وسط شعورٍ دائمٍ بالخوف من بعضهما البعض بفعل التعب ذاته، وحالة من الصمت الفظيع الذي ينتهي بهما غالبًا إلى ممارسة شيءٍ من العنف الناتج، بغض النظر عن طبيعته ودرجاته وأهدافه أيضًا، عن تشويه التعب الخبيث وبشكلٍ متواصل لا لصورة الطرف الآخر فقط، وإنما لجميع أبناء جنسه.

يُنظر إلى العنف المرتبط بالتعب الخبيث، على أنه السبيل الوحيد للخلاص الذي يتمثل في افتراق طرفي العلاقة ونهاية حكايتهما. ولكن، في حال نجاحهما بتجاوز هذا التعب، فإنهما يضمنان بذلك علاقة صلبة ومتماسكة ودائمة أيضًا، لأن التغلب على التعب، في جوهره، يشير إلى قدرة عالية على مقاومة الخطر الذي يضع "الحب" على المحك، ويُبطل سحره بضربةٍ واحدة، تتلاشى بفعلها جميع الخطوط التي ترسم صورة الطرف الآخر.

يميز بيتر هاندكه بين تعبٍ طيب وآخر خبيث، أو بين تعب الـ "أنا" بمفهومها الضيق، وتعب الـ "نحن" بمفهومها الواسع

أما التعب الطيب، فيرتبط عند صاحب "خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء"، بـ "الجماعة"؛ إنه ذلك التعب الذي ينطوي على قدرٍ من اللذة، ويُقدّم هاندكه لحظة الراحة بعد عملٍ جماعي مشترك مثالًا عليه، في إشارةٍ منه إلى أنه تعب يجمع ويوحّد بدل أن يُفرّق، ومن هنا تحديدًا يأتي ارتباطه بـ "الجماعة"، لأنه تعب مشترك، يُفرز شعبًا يسميه "شعب التعب"، وهي تسمية تتعلق بأولئك البشر الذين سارعوا إلى إعادة بناء بيوتهم وقُراهم ومُدنهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مما يعني أنها صفة قابلة للتعميم داخل القارّة الأوروبية وخارجها.

اقرأ/ي أيضًا: في أشياء القراءة والكتب

يُقدّم بيتر هاندكه صورة أخيرة للتعب، لا تندرج تحت التصنيفات السابقة، طيب وخبيث، لأنها تشير إلى تعبٍ مختلف، يرتبط بالكتابة، أو لحظة الفراغ منها تحديدًا: "عرفت نوعًا جديدًا من التعب (...) كان ذلك عندما احترفت الكتابة، إذ كنت أواظب عليها يومًا بعد يوم ولعدّة أشهر، وعندما كنت أخرج إلى الشارع، كنت أشعر وكأنني فقدت صلتي بكل من حولي (...) كان انعزالي هذا يفرز بداخلي إحساسًا عذبًا. لم يكن المجتمع غير متاح لي، بل كنت أنا غير متاح للمجتمع، ولكل من حولي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "حليب سوفييتي".. وجه آخر للحكاية

ثلاثية "السائرون نيامًا".. ترجمة عربية متأخرة لهرمان بروخ