12-مايو-2020

بيار آلان غاس قاصّ وروائي فرنسي، ولد عام 1947 في بوسك-رونولت، يكتب باللغتين الإسبانية والفرنسية. درس اللغة والآداب الإسبانية وتحصل على شهادة الدراسات المعمقة سنة 1971. اشتغل في مهنة التعليم الثانوي ثم انتقل إلى تدريس الأدب في الجامعات والمعاهد العليا للدراسات التحضيرية. عام 1981 تعرّض إلى حادث صحيّ دفعه إلى كتابة أولى رواياته. عام 1995 كتب قصته الأولى، وعام 1998 أسّس موقع القصص الشهير "قصص، قصص"، وهنا أهدى لجمهور القصة مساحة كبيرة لقراءة كل نصوصه التي تجاوزت الـ150 باللغة الفرنسية والإسبانية، كما يحتوى نفس الموقع نصوصًا لغيره من الكتّاب من جميع أنحاء العالم. منذ تقاعده عام 2007 وحتى الآن وهو متفرغ للأدب.

صدرت له حتى اليوم 5 مجموعات قصصية، وعدد من الروايات.

تحصل عام 2005 على الجائزة الأولى للنص القصير التي تقيمها المؤسسة الثقافية "باستت" عن قصته القصيرة: "هل قلتُ لكم؟". وحاز عدة جوائز أخرى من بينها جائزة أفضل مجموعة قصصية عن مؤسسة ورشة الفنون سيرفون فيلان عام 2015 عن مجموعته: "حب الورق".


أصدقائي الأعزاء،

كنت أريد منذ وقت طويل إرسال هذه الرسالة وهذه الصورة، التي التقطتها من نافذتي، للبحيرة في وضح النهار، لكنني للأسف لم أنجح في ذلك. رسالتي، أقصد المسودة الأولى التي كتبتها، كانت هنا في مكان ما من هذه الآلة التي تربطني بكم، ولكن أين؟ لم أكن أعرف! ثم حدثت معجزة هذا الصباح، فقد وجدتها حيث ينبغي أن تكون، وها أنذا قد أتممتها، تمامًا في الوقت.

منذ آخر تغيير، (لا تسألوني ما هو)، بقيت هذه الآلة متصلة بكم بشكل دائم. غير أني فقط في بعض الأحيان لا أفهم ما كتبته في اليوم السابق أو الذي قبله. لذلك أعود له فيما بعد. وهذا سبب عدم إسراعي في الكتابة.

استغرق مني هذا أيامًا وأيامًا، حتى تمكنت من إيجاد كل عناوينكم البريدية الإلكترونية ووضعها في خانة المُرسل إليه، ثم إدخال الصورة، لأني لا أحب طلب المساعدة من أحد. استغرقتُ وقتًا طويلًا أيضًا لتحرير الرسالة في المسودة. الموضوع: رسالة إلى أصدقائي. لا أخصص لعمل ذلك إلا قليلًا من الوقت كل يوم، وكل يوم أقل من الذي سبقه. رغم الدفتر الذي أسجل فيه كل ما يجب عليّ القيام به. بعد الإفطار وضعتكم في قائمة أعمالي: "الكتابة لأصدقائي"، وعلى ورقة أخرى، سجّلت بالتفصيل كل ما يجب القيام به لفتح البريد الإلكتروني. دون ذلك، أقوم غالبًا بالقفز على إحدى المراحل، وبالتالي لا أتوصل لفعل شيء فعلًا، أو أنسى تمامًا في أي مرحلة أنا، فأترك كل شيء.

كل ما كان سهلًا بالنسبة إليّ في الماضي، أصبح معقدً جدًا الآن.

ولكن اليوم، وحتى هذه اللحظة، كل شيء يسير على ما يرام.

تخلصتُ حاليًا من كل همّ مادي: أولادي يتحملون مسؤولية حياتهم. وسيدة تقوم بدور المرافقة والممرضة، كما تساعدني على إيجاد نفسي، شيئًا فشيئًا، داخل هذا البيت الكبير. أغلقنا الغرف غير المأهولة، لأنني لو دخلتها عن غير قصد، سوف أضيع، ففي أحد الأيام، احتجت لساعة كاملة للذهاب إلى المكتبة التي في غرفتي، أمر مزعج. ولهذا السبب قررت أن أزرع الكتب على طول الطريق، حتى لا أضيع في المرة القادمة، ولكن ذلك لم يكن عمليًا في كل الأحوال.

يزورني ضيوف دائمًا، لا أتعرف على بعضهم للأسف أحيانًا. رغم ذلك أعرف جيدًا أن أولادي وأحفادي يكونون في الغالب جزءًا منهم. أحيانًا أروى لهم أشياء نسوها من ماضيهم، أحيانًا أخرى أجدهم مختلفين ولا أعرف عنهم شيئًا. إنها قلة ذوق مني، هذا صحيح، ولكن ماذا بيدي؟

هل قلت لكم أنني التقطت هذه الصورة بنفسي من نافذة غرفتي؟ أحببت التصوير دائمًا. أظن أنها كانت صباح أو مساء أحد أيام هذا الشتاء. نعم.. أتذكر ذلك الآن. الهواء المنعش والجاف يملأ رئتي، والرمادي المائل إلى الزرقة في الزهور يبعث فيّ السعادة وأنا أرى انعكاسها فوق مياه البحيرة المتموجة على نحو ضئيل.. أرسلها لكم كي تفكروا بي وأنتم تنظرون إليها.

امرأة من المدينة تجلب لي وجبات طعامي (لا أعرف ماذا تسمى هذه المؤسسة بالضبط، لأن اسمها فيه حروف كثيرة)، تضع فوق ثيابها شارة لأعرف اسمها: بريجيت. امرأة لطيفة وأحب أطعمتها كثيرًا، ولكن كارولين (الممرضة التي تحمل هي أيضًا شارة) يكون دورها المراقبة، لأنني أحيانًا أحاول أن أقطع اللحم بالملعقة، أو رش الملح أو الفلفل الأسود على الحلويات. قالت لي إنني الأسبوع الفائت أكلتُ السلطة قبل المقبلات، والمثلجات قبل الحساء. ولا بدّ أن يكون كلامها صحيحًا تمامًا.

حتى وقت قريب، كنت ما أزال أقرأ الكتب قليلًا، ولكن شيئًا فشيئًا أصبحت الكلمات تتراقص أمام عينيّ كلما أمسكت كتابًا، أو أنها لا تعني لي شيئًا وأعجز تمامًا عن فهمها. على الكومودينة، بجانب صورة كتبتُ على جانبها "كليليا"، أرى رواية "مائة عام من العزلة". اضطررت لقراءتها كاملة في السابق بما أنهم أخبروني أنني درّستُ غارسيا ماركيز في الجامعة، الآن من المستحيل أن أتجاوز فصلها الأول، لأنني مع نهايته أجدني نسيت البداية. رغم ذلك أجد هذه الرواية مثيرة جدًا، وكثيرًا ما تمنيت أن أعرف بقية الأحداث.

اليوم أو البارحة (لا أعرف تحديدًا، المهم أنه منذ وقت قريب جدًا)، تلقيت هدية لعيد ميلادي الرابع والثمانين، كانت عبارة عن سترة مبطنة من الداخل، مريحة جدًا. يبدو أنني أردت أن أنام بها معتقدًا أنها بيجاما. ضحكت كارولين كثيرًا، وأنا أيضًا ضحكت، ففي النهاية لم يكن في الأمر خطورة كبيرة.

أصدقائي الأعزاء، هل قلت لكم أن رسالتي هذه، هي الأخيرة؟

ما زلتُ بالتأكيد قادرًا على الكتابة لكم قليلًا، ربما، على الرغم من خشيتي أنها ستكون كتابة مفككة، ولكني سأغادر.

يوم الإثنين أو.. حسنًا، لنقل قريبًا، سوف أدخل إلى مؤسسة رعاية، لا أعرف أين تقع. الجميع هنا يقولون إن السكن بمفردي لم يعد ممكنًا، لأنه غير آمن، ومعقّد جدًا. وأولادي قالوا: نعم.

لن أنظر إلى البحيرة بعد اليوم. سوف تنظرون إليها من أجلي...

أقبلكم.

موريس.

ملاحظة: أتمنى أن تصلكم رسالتي!

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا أكتب: قهوةٌ تفورُ وتُطفئُ النّار التي تحتها، إلى حين

اكسر المرآة ترَ نفسك