17-أكتوبر-2015

القلب يعرف طريقه جيدًا (Getty)

أعرف صديقًا أضاع البوصلة ويمضي معظم وقته هذه الأيام في البحث عنها. حتى أنه ذهب إلى المخفر وأبلغ عن ضياع البوصلة، ونشر في الجرائد بلاغًا يطلب ممن يجدها أن يضعها في أقرب جامع أو مخفر أو أن يتصل به على رقم أرفقه بالبلاغ.

كيف أضاعها؟ لا يعلم. يقول إنه ربما نسيها في تظاهرة، أو عندما سحلته الشرطة بالأحذية العسكرية، وقعت وتهشمت. أو ربما تركها هناك، في الزنزانة حيث أمضى شهورًا تحت التعذيب. لا بد أنها سقطت نتيجة ركلات المحققين ولكماتهم. ليس متأكدًا تمامًا. لكنه يعرف أنها ضاعت في معرض القمع والظلم والتعذيب. يعرف أن الأنظمة هي التي أضاعت البوصلة، لا الشعوب. ومع ذلك، لم يحزن يومًا على ضياعها. لطالما كان صديقًا للأنظمة ومتملقًا للشعوب. حتى الآن، ما زال يبحث عن البوصلة في المكان الخاطئ. لكنه يبحث.

لماذا يبحث عنها؟ لأنه يريد التأكد من وجودها، ومن ماهيتها. كانت بحوزته دائمًا، لكنه لم يتعرف إليها أبدًا، لم يلمسها، ولم يحدد شكلها. في الواقع، لم ير بوصلة في حياته سوى في كتاب الجغرافيا، ولم تكن حقيقية، بل كانت رسمًا متخيلًا.

ربما لم يضعها. ربما لم تكن يومًا موجودة أصلًا. ربما كانت وهمًا فحسب، حكاية من حكايات الأنظمة للشعوب حتى تنام. وكان كل من يعاند النوم والنعاس من الشعب، يقال إنه أضاع البوصلة. ثم يعيدونه إلى "الطريق المستقيم" بالقوة. يعيدون إليه البوصلة بالقمع الوحشي المطلي بألوان الوطنية والمقاومة والصمود والتحدي. بقوس قزح الممانعة الحريصة على عدم ضياع البوصلة، وبقائها في المكان الصحيح، تشير إلى حيث يجب أن تشير من أجل تدعيم منطق السيطرة والنفوذ والدكتاتورية.

الآن يفكر: كم أنه محظوظ لأنه أضاع البوصلة لأنه امتلك جميع الاتجاهات لأنه خرج من أسر الحقل المغناطيسي للأفكار المعلبة بالتنك

لم قد يحتاج إلى بوصلة أصلًا؟ لتحديد الاتجاهات؟ لتحديد التوجهات السياسية؟ ليقرر إلى جانب من يجب أن يقف؟ أي بوصلة هذه التي تشير في الوقت عينه إلى قطبين مختلفين على أنهما الجهة المنشودة: الظالم والمظلوم. يقول جماعة البوصلة "الممانعة" إن فلسطين هي البوصلة، وإن الشعوب التي تثور على ظلّامها تريد أن تضيّع البوصلة من أجل إنقاذ إسرائيل. هذا منطقهم. هذه بوصلتهم. وهم يسيرون عكسها دائمًا. هكذا يريدون للأمر أن يكون: اتجاه واحد وطريق واحد ومصير واحد وقائد واحد وتفكير واحد ومنطق واحد. وأي واحد يخرج عن هذا القالب الواحد مصيره التخوين واستباحة العرض وهدر الدم. اتجاه عكس الشعوب، وتاليًا عكس فلسطين أيضًا.

الآن يفكر: كم أنه محظوظ لأنه أضاع البوصلة، لأنه امتلك جميع الاتجاهات، لأنه خرج من أسر الحقل المغناطيسي للأفكار المعلبة بالتنك. تحرر من السهم، تحرر من الواجب الوطني الذي يشبه الواجبات المدرسية المملة. وفكّر بينه وبين نفسه: "أنا لست سفينة، أنا لست نوح، لا حاجة لي إلى البوصلة، قلبي يعرف طريقه جيدًا".

اقرأ/ي أيضًا:
" جوجل ويوتيوب" هل تتعاونان فعلًا مع إسرائيل؟
انتفاضة القدس.. أسئلة برسم الحجر