03-مايو-2020

يعد كتاب بورديو من أهم الإسهامات النظرية عن الدولة (ألترا صوت)

يقدم بيار بورديو، واحد من أهم الأسماء في تاريخ علم الاجتماع، إيجازًا مكثفًا لمقاربته النظرية والاجتماعية للدولة، في سلسلة محاضراته في الكوليج دو فرانس، التي دُونت في كتاب تُرجم إلى العربية، وأصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان "عن الدولة".

يبقى كتاب بيار بورديو، عملًا نظريًا ضخمًا مكثفًا جدًا، معززًا بكثير من الأمثلة، ومن أهم ما أنجز نظريًا عن الدولة

ليس بالإمكان الادعاء بتقديم مراجعة للكتاب، ولا حتى لتصورات بورديو عن الدولة، حيث يصطدم القارئ بمجموعة من المحاضرات التي لا بد من عرضها بشكل منفصل، بل وربطها كل واحدة على حدة، بمنتج بورديو في مجالات أخرى مثل العنف الرمزي والخطاب العمومي، وأشكال رأس المال، البدني والاجتماعي والاقتصادي، إلخ. وبالتالي، فإن هذه المداخلة تقتصر على تقديم ملاحظات عامة، تأمل أن تسهل تلقي القارئ لهذا المنجز الموسوعي والضخم، وأحد أهم الإسهامات النظرية عن الدولة على الإطلاق. كما تقوم ببعض المقارنات النظرية.

​اقرأ/ي أيضًا: الدولة عند بيير بورديو.. قراءة في أسسها الرمزية والاعتبارية

هل نفكر في الدولة أم تفكر الدولة في نفسها؟

يقع الكتاب الصادر عام  2016 بترجمة نصير مروة، في 735  صفحة، وينقسم إلى 23 محاضرة، وينطلق من تعريف الدولة عبر تطوير مقولة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي سبق وأن فهمها باعتبارها إطارًا لاحتكار العنف. حيث يرى بورديو أن الدولة وإن كانت عصية على التعريف، تمثل القطاع/الحقل/المجال الذي يقوم باحتكار العنف، لكن ليس بصفته المادية فقط، ولكن الرمزية أيضًا. لكنه يقر أن هناك طابعًا يميز الدولة الحديثة، أو الطريقة التي تقدم فيها نفسها على الأقل، وهو "لا قابليتها لأن يفكر بها" (unthinkability)، ولعل من وظيفة عالم الاجتماع، محاربة تلك الصفة.

تقوم الدولة بفرض نفسها من خلال تلك الصفة، ضمن عملية معقدة وضمنية من كسب الشرعية والقبول، حيث تكتسب قوانينها وأوامرها تلك الشرعية من خلال قبول الناس لها، وتطبيقها بشكل يومي، عن طريق الالتزام بقواعد بسيطة مثل إشارات المرور، الوقت، الروزنامة، وأيضًا من خلال عمل الموظفين فيها، وممارسة أدوارهم الروتينية، كما يكتسب مفهومها المبهم شرعيته، من خلال التفكير به، أي من خلال الدور الذي يلعبه علماء الاجتماع أنفسهم والباحثون، في دراستها، أو دراسة المشاكل العلمية التي تقرها عبر مؤسساتها وإداراتها المدنية. ولعل أوجز تكثيف لتلك الفكرة، يرد في كتاب "إعادة النظر في الفلسفة" (آفاق للنشر والتوزيع، 2017) عندما يقول عالم الاجتماع الفرنسي، إن الدولة "تفكر في نفسها، من خلال أولئك الذين يفكرون بها".

يمكن القول إن جزءًا كبيرًا من موضوع المحاضرات، التي بدت متسقة ومترابطة رغم أن بورديو نفسه لم يكن في نيته تحويلها إلى كتاب، هو الآليات التي تكتسب فيها الدولة شرعيتها، وتنتج وتعيد إنتاج نفسها، من خلال الممارسات العادية للمواطنين، والموظفين العموميين، والعلماء، وأحيانًا الأدباء والفنانين.

تتمثل لا مرئية الدولة، في مركبين. هما أولًا (nomos) "الناموس" (الشرع المكنون حسب معجم الدوحة التاريخي)، وهو اصطلاح إغريقي يعود استخدامه الحديث في علم الاجتماع إلى كارل شميت، بمعنى القواعد الأخلاقية المبنية اجتماعيًا، والتي يأخدها الناس كقواعد ضمنية ومفروغ منها، أما المركب الثاني فهو المعتقد السائد (doxa). وبالتالي فإن الدولة تندمج وتنتج وتعيد إنتاج نفسها، من خلال امتثال الناس للقواعد أو عدم امتثالهم لها. وهو ما يتقاطع على سبيل المثال مع أطروحة ميشيل فوكو بشأن "ولادة السجن" (مركز الإنماء القومي، 1990)، حيث إن تحديد ما هو سوي/صحي/عقلاني، يتم أيضًا من خلال عملية ضبط ومعالجة والتعامل مع كل ما هو ليس كذلك. كما أن الدولة تندمج في اعتقاد الناس أن موقعهم في "العالم الاجتماعي" هو الشرط الموضوعي الوحيد لوجودهم.

وبالتالي، فإن من ميزات الدولة، هو هذا الشق الخفي والرمزي، على عكس الافتراض التقليدي، بأنها تعبر عن مجموعة من الممثلين أو الفاعلين الذين غالبًا ما يظهرون علاقات وأنماط تفاعل واضحة وعلنية. وبالتالي فإنه لا بد على أي مقاربة اجتماعية للدولة، أن تناضل من أجل التفكير فيما لا يُفكر به. وعلى سبيل المثال، فإن مفاهيم مثل الخطاب الرسمي، الرأي العام، التمثيل، غالبًا ما تنطوي على تعتيم لعمليات تهميش وإقصاء مرتبطة بها، وللسؤال عمن هو "جدير بإبداء الرأي"، وعمن هو ليس جديرًا بذلك. كما أن التفكير في القضايا السياسية والعلمية، غالبًا ما يخفي كيف تم تأسيس تلك القضايا، ولماذا؟ بالإضافة إلى أن "حرية التعبير" غالبًا ما تنطوي على إهمال الآليات التي تفضل فيها الدولة وجهات نظر على حساب أخرى.

مع ذلك، فإن الدولة ليست ذلك الجسم، كما في التفكير الماركسي، الذي يضفي معنى المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وليست نوعًا من السلطان المستند إلى القوة البدنية فحسب، كما في التصور الفيبري، وليست بالتأكيد سلطانًا يخدم المصالح الاقتصادية لفئات محددة، ولا إطارًا لعمليات التمثيل العادل كما في التصور الديمقراطي، أو حماية المصلحة العامة كما في تصور نظرية العقد الاجتماعي، حيثث إن مشكلة معظم التصورات حولها أنها تتفرق على وصفها سلبيًا أو إيجابيًا بشكل مبالغ به. أما بالنسبة لبورديو فإنها أقرب إلى نمط من المحددات التي تخلق وتعرف العالم الاجتماعي، وتصبح موضوعًا له، وواضعًا أيضًا. كما أنها تقوم "بدمج نفسها" مع الفاعلين في هذا العالم الاجتماعي. حيث توجد الدولة كما قلنا، في ممارساتنا العادية، وفي امتثالنا للقوانين، أو في "استهلاكنا" للإجراءات البريقراطية العادية.

إنها بمثابة "دين علماني"، تقوم على الافتراض أنها تمثل الإرادة العليا للناس، وتنوب عنهم في تحديد المصلحة العام بالنسبة لهم، ومواقيت حياتهم، والوازع البيريقراطي لتصرفاتهم.

مداخلة فريدة في القومية

لا بد من الإشارة أيضًا، إلى فهم بورديو الفريد بشأن نشوء ما هو قومي، في المحاضرات التي تعلقت بتاريخ نشوء الدولة، وبالسؤال عمن يخلق الآخر، الدولة أم الأمة. يبدو طرح بورديو هنا فريدًا جدًا، حتى بالنسبة للمقاربات مثل تلك التي تبناها بندكت إندرسون، في أطروحته عن "الجماعات المتخيلة" (المركز العربي للأبحاث، 2014). صحيح أن نشوء "الخيال القومي" بالنسبة لإندرسون مرتبط بمؤسسات الدولة، حيث يركز بشكل واسع ضمن عمله على آليات صناعة الحدود والتاريخ والسكان، من خلال مؤسسات الدولة، مثل المتحف ومؤسسة الإحصاء. إلا أن الأمر بالنسبة لبورديو يتجاوز هذا الفهم الأحادي، فهو لا يفترض أن الدولة تقوم بإنتاج ما هو قومي على أي صعيد، ولكن القومي جزء من عملية التفاعل التي تتخلق داخلها الدولة، ضمن ثنائية السيطرة والإدارة. يشبه الأمر القول إنه لا يمكن الفصل بين عملية السيطرة على الإقليم، وإدارة حق الأفراد في الانتماء له، حيث إن هذا الحق بالانتماء إلى الإقليم أصبح المؤسس لتشكيل الأمة.

يشبه الأمر العلاقة بين السلطتين البيو-حيوية والسيادية في أدبيات ميشيل فوكو، حيث تترافقان في إدارة السكان، والجغرافيا، من خلال تشكيل مفهوم السيادة. ويبدو أنه في معظم الحالات لا يمكن الفصل بين عملية إدارة السكان، وإنجاز السيادة.

رغم هذا الاتفاق، يبدو أن بورديو يختلف مع طرحي ميشيل فوكو في مداخلته عن "الأمن، الأرض والسكان" (بالإنجليزية: Springer, 2007) وبندكت إندرسون في "الجماعات المتخيلة"، وكلاهما يرى أن هناك تحولًا في موضوع الدولة الحديثة من الأرض إلى موضوع السكان. هنا يميل بورديو إلى الاعتقاد بالعلاقة غير القابلة للانفكاك، بين المركبين كما أسلفنا، بالإضافة إلى تركيزه أكثر على نوع عكسي من التحول يحدث في الدولة القومية، يتعلق بتغيير أنماط الانتماء، من علاقات الدم والعلاقات الأهلية، إلى علاقة الانتماء إلى الإقيليم. ويتعذر الجزم أن مفهوم الإقليم بالنسبة لبورديو يشير فقط إلى الأرض، ومن المرجح من وجهة نظر هذه المداخلة، أنه يعني أيضًا العالم الاجتماعي الذي يتشكل في هذا الإقليم، باعتبار أن الأرض والعالم الاجتماعي لا يمكن فصلهما. وبالتالي فإن ما يحدث في الدول الحديثة هنا يبدو أقرب إلى الانتقال من علاقة الأفراد ببعضهم، وبالسلطان، إلى علاقة الأفراد بالإقليم، وبالخطاب العمومي والسيادي (القانون، الدستور، إلخ).

اقرأ/ي أيضًا: ​غونتر غراس وبيير بورديو.. أسئلة الأفواه الكبيرة

كما يصبح الإقليم بمثابة إطار أو حيز تدير فيه الدولة التنافس على أشكال رأس المال المختلفة، ليس فقط الاقتصادي ولكن الاجتماعي والرمزي وغيرها، وتنتج نفسها من خلال هذا التنافس. هنا تبدو هذه المقاربة بحاجة أكثر إلى التفكير في مؤثرات مثل العولمة، حيث يخرج هذا التنافس عن حدود "الإقليم" وحتى عن الحدود الإدارية للإقليم. لا يتعلق الأمر هنا فقط بفتح الحدود بالمعنى الاقتصادي، ولكن حتى فيما يتعلق برأس المال الاجتماعي، حيث يتم إنتاج أنواع من القبول والشرعية العابرة للحدود للمؤسسات (الجامعات مثلًا أو المؤسسات الدولية)، وأيضًا للمنتج الثقافي.

يبدو طرح بورديو عما هو قومي فريدًا جدًا، حتى بالنسبة للمقاربات مثل تلك التي تبناها بندكت إندرسون، في أطروحته عن "الجماعات المتخيلة"

يبقى كتاب بيار بورديو، عملًا نظريًا ضخمًا مكثفًا جدًا، معززًا بكثير من الأمثلة، ومن أهم ما أنجز نظريًا عن الدولة. كتاب يحظى ويستحق أن يحظى بالفعل بكثير من الدراسة والتعليق، والاستشهاد والحوار.