30-يونيو-2019

إليان سافكوف/ صربيا

في مقابلته مع الفاينانشيال تايمز البريطانية، كشف لنا السيد بوتين عن تبنيه لتصوّر شعبوي ساذج يرى بإمكانية تحقيق الرفاه الاقتصادي، عبر اتباع سياسات قومية حمائية تجاه سياسات العولمة التي تتمخض عنها خسارة الكثيرين من العمال لأماكن عملهم، كما تعرّضهم للمنافسة من قبل عمال الدول الأكثر فقرًا. وهو في سبيل ذلك لا يفعل شيئًا سوى مشاركة الناس بهجاء تلك السياسات دون أن يعمل على نحو جدي على تفادي آثارها السلبية، مُفضلًا عليها تضخيم النزعة القومية التي تمجد نزعة الحرب الاستعمارية لتعويض انخفاض مستوى الرفاه الاقتصادي الذي يتخبطون به.

ركّز بوتين هجومه الاحتقاري على الديمقراطية الليبرالية معلنًا إصراره على أنها تصوّر عقائدي من تصورات الماضي التي عفا عليه الزمن

في رغبة شعبوية عميقة تؤكد على نزعته المتأصلة كمستبد مطلق، ركّز بوتين هجومه الاحتقاري على الديمقراطية الليبرالية، معلنًا إصراره على أنها تصوّر عقائدي من تصورات الماضي التي عفا عليه الزمن. الديمقراطية التي هي أساس جوهر الفكر السياسي الحديث والطريقة المثلى التي أثبتت نجاعتها في إدارة الشأن العام للناس باطلة حسب تصورات السيد بوتين، لا لشيء سوى لأنها تفسد على شخص شعبوي مثله يمتدح التصورات الساذجة للجماهير، رغبته بالاحتفاظ بالسلطة المطلقة إلى أبد الآبدين.

اقرأ/ي أيضًا: العكيد أبو علي بوتين

في غمرة اللقاء، يبشّر بوتين بنهاية الليبرالية الغربية، ويطرب لذلك دون أن يكلف نفسه عناء تفسير تلك النهاية المأساوية لها، سوى احتفائه بعلو أصوت بعض أحزاب اليمين الشعبوية في الفضاء الأوروبي ونجاح وصول الشعبوي ترامب المنحاز لفكرة أمريكيا أولًا.

في أعماقه، يتمنى بوتين أن يحتفل بالخلاص من فكرة حقوق الإنسان التي تجعل من إقدام دولة روسيا بوتين على محاولة اغتيال عميل الاستخبارات الروسي سكريبال، الحائز على حق الحماية على أراضي الدولة البريطانية، جريمةً إنسانية من العيار الثقيل تستوجب الشجب والإدانة، إلى درجة تخفيض العلاقات الدبلوماسية وتأزم العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين.

الجلبة التي أثارتها أقوال بوتين حول تهافت ونهاية الديمقراطية الليبرالية سرعان ما وجدت من يرد عليها من المسؤولين الأوروبين، دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبي المنتدب لحضور قمة العشرين في أوسكا الجمعة 28 حزيران/يونيو، حيث كشفت أقواله مدى التهافت والاحتقار الذي يكنه بوتين السلطوي الشعبوي للحريات والحقوق وسيادة القانون "من يدعي أن الديمقراطية الليبرالية عفا عليها الزمن، يدعي أيضًا أن الحريات عفا عليها الزمن، وأن سيادة القانون عفا عليها الزمن، وأن حقوق الإنسان عفا عليها الزمن. بالنسبة إلينا في أوروبا هذه القيم ستبقى وستظل حيوية. ما أجده عتيقًا حقًا، وعفا عليه الزمن هو: الاستبداد وعبادة الفرد وحكم الأوليغارشيين، القلة، حتى لو كانت في بعض الأحيان قد تبدو نشطة".

في معرض التذكير بمواقفه من تدفق اللاجئين السوريين على أوروبا، وتوجيهه اللوم للمستشارة الألمانية ميركل بسبب سياسة الباب المفتوح التي اتبعتها حيال اللاجئين الهاربين من قصف جحيم طائراته، كما موقفه المرحّب بسياسات ترامب تجاه المهاجرين "غير الشرعيين" إلى الولايات المتحددة، يُظهر بوتين انحيازًا ساذجًا ويقينيًا تجاه الصورالنمطية الشعبية التي تتعامل مع اللاجئين، أصحاب الثقاقات المغايرة، عبر منطق إمكانية ارتكاب الكثير منهم للجرائم والجنح، التي قد تهدّد باتساعها السلم الأهلي في تلك البلدان، كما لو كانت تلك البلدان بلا قوانين ولا ضوابط، وكما لو كان اللاجئين قطعان من البشر المتوحشين الذين لم يعرفوا في حيواتهم الحضارية الماضية أي مقدار قليل من الضبط الاجتماعي أو الوازع الأخلاقي.

إن تصورات بوتين الشعبوية عن اللاجئين المسلمين ذوي الثقافة الشرق أوسطية الذين يرغبون بتغيير النمط الحضاري للحضارة المسيحية ما هو إلا تصور ساذج، فلا اللاجئون يعيشون في دولة داخل دولة، ولا هم يعيشون في معازل ومخيمات بعيدة عن المجتمعات التي يحيون في داخلها، أضف إلى ذلك أن الثقافة الأوروبية المعاصرة ليست مسيحية، بل علمانية ديمقراطية تقر بحرية الاعتقاد الديني لمواطنيها، دون أن تنجر إلى التحيز لمعتقد على حساب آخر.

بدا بوتين في خطابه الشعبوي شخصية رجعية أقرب ما تكون إلى ثقافة الرجل الأوروبي القروسطوي. إنه رجل مأخوذ بثقافة الغيرة الوطنية والخيانة العظمى تجاه عميل استخباراتي، سكريبال، أبى إلا أن ينزل به عقوبة الموت، حتى ولو انتهك بفعلته تلك الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول، مُصرًّا على المضي قدمًا في سياسة الخبث الروسي التي تقتل القتيل وتمشي بجنازته، فهو لم يسممه كما يدعي ولم يوعز لمن يفعل ذلك، ولكنه لا يمانع بمباركة ما آل إليه حال سكريبال المعلق بين الموت والحياة، فما سكريبال في عرفه سوى خائن وطني صغير توجبت معقابته نيابة عن الشعب الروسي المجروح بكرامته الوطنية.

بوتين الاستخباراتي، صاحب القبضة الفولاذية، لا يقبل بالتسامح مع الشاذين، سواء كانوا معارضين سياسيين أو أصحاب ميول مثلية

من أعماق بوتين الاستخباراتي، صاحب القبضة الفولاذية التي لا تقبل بالتسامح مع الشاذين، سواء كانوا معارضين سياسيين أو أصحاب ميول مثلية، تنهض التصورات الشعبية الممجوجة ذات الإرث الديني التي ترى في الممارسات المثلية شرورًا لا يمكن لها أن تغتفر، دون أن يُلقي بالًا لآراء خبراء الأمم المتحدة حول الموضوع، الذين أقروا من خلالها بطبيعية وقانونية الممارسات المثلية، التي ما تزال النظرة الاجتماعية التقليدية تصرّ على تجريم أصحابها.

اقرأ/ي أيضًا: "أبو علي" الممانعة

في لمسته السحرية كرجل أسطوري، يسعى بوتين لبذل جهده كله من أجل إعادة روسيا الاتحادية إلى سابق عهدها من المجد التليد كدولة عظمى مقرّرة لمصائر العالم ، لذا نراه لا يتوقف لحظة واحدة أمام فكرة الاستعانة برجل جرائم الحرب والإبادة الجماعية المدعو بشار الأسد، ما دام يمتلك القدرة على مساعدته لتحقيق هذا الهدف الإمبراطوري، أما ما دون ذلك فهو رجل الاستخبارات الحديدي، الذي لا يمكن لعزيمته أن تلين أو تضعف أمام فظائع الجرائم التي ترتكبها غربان طائراته المحملة بالموت والدمار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ديناميكة السوق وأزماته.. كيف أصبح بوتين "قيصر" هذا القرن؟

الاستبداد يطارد الصحفيين الروس إلى أفريقيا.. لعنة بوتين في كل مكان