09-مارس-2016

هم أبناء مدينة مغضوب عليها من دولة استقالت عنها وهم عن الوطن ما استقالوا(ناصر طلال/الأناضول)

ربما لم يسمع العديد من التونسيين بمدينة بنقردان إلا في علاقة بـ"سوق ليبيا"، وهو سوق تجارة بالجملة، وقد كانت ترتحل إليه الحافلات من العاصمة كل أسبوع لمسافة تقارب 600 كم، وربّما يظنّ الكثير منهم أن بنقردان مجرّد بلدة حدودية صغيرة على مستوى الحدود التونسية الليبية، الأمر الأكيد أنهم يرونها كأي منطقة توصف بـ"الحدودية" وما يتبعها من نظرة دونية لهامش عن المركز، أضف إلى ذلك أنها في الجنوب التونسي المنسي.

احتضنت بنقردان المعركة الأخيرة ضد عصابات ما تسمّى "الدولة الإسلامية"، الذين حاولوا خطف المدينة وأهلها فكانت بنقردان حصنًا لتونس

ولكن بنقردان أعمق مما يظنّون ببوصلة الجغرافيا، وأثقل مما يعتقدون بحكم التاريخ، وهي التي احتضنت المعركة الأخيرة ضد عصابات ما تسمّى "الدولة الإسلامية"، الذين حاولوا خطف المدينة وأهلها، كانت هذه المناسبة لتنكشف مدينة بنقردان كحصن لتونس.

اقرأ/ي أيضًا: هوامش تونس.. جحيم التهريب ولا جنة الدولة

حينما تكون في طريقك إلى بنقردان، وتُسأل إلى أي منطقة وصلت وتجيب بأنك بالكاد تصل "للثكنة العسكرية"، يعلم محدّثك أنك نزلت بأرض الأجداد، وكأن الثّكنة هي كلمة سرّ قبل أن تكون مؤشرًا مكانيًا، فهي بوابة منها تبدأ بنقردان في الوجدان وإن بدأت بحكم التقسيم الإداري قبل ذلك بكيلومترات وأنت قادم من مدينة مدنين، وتكون قد تركت وراءك مناطق "الشهبانية" و"النفانية" و"وادي الربايع".

وفي بنقردان، على جوانب الطّريق، صبية يبيعون البنزين القادم على سيّارات تعرف مسالك الصحراء ودواخلها، وتلك هي قصّة قدر يهرع نحو الشباب يختطفهم قبل أن يختاروا، وهم أبناء مدينة مغضوب عليها من دولة استقالت عنها وهم عن الوطن ما استقالوا.

أذكر في صيف 2011 لافتة معلّقة في وسط المدينة تسأل "أهل المخزن" استخلاصًا عن "تنمية" تُسمع ولا ترى وذلك قبل أن يسألوهم عن "آفة" التهريب، وقد يكون، التهريب، هو "هبة" بعين جشع "أهل المخزن" فيكون عندهم لزامًا وجوب استقالة الدّولة عن المدينة. ولذلك عدا مؤسسات الضّبط، من ضبط الأجهزة المسلّحة للدولة إلى ضبط الإدارات المحليّة والفرعية، يجزم زائر حديث العهد أن المدينة غير واردة بكرّاس "أهل الحلّ والعقد"، وإن كانت أكبر معتمديات محافظة مدنين مساحة، وهي التي تمسح أكثر من نصف مساحة المحافظة، وكذلك أكثرها تعدادًا سكانيًا بثمانين ألف ساكن.

وأهل بنقردان من عروش "الودارنة"، وهم أجدادي، و"التوازين" و"الجليدات" وغيرهم، ودعنا من سرد المناقب وعرض تاريخ "كنفيدرالية ورغمّة" وحديث شرف وهمّة، قد يكون فيه من استحكام لشوفينية لا يستطعمها كثيرًا قاموس فكرة الدولة الوطنية، وإن أولئك أصحاب "هيبة الدّولة"، ما كانوا عن "دولة الوطن" في الأصل إلا مارقين، فلا بأس، أن يعلموا أو يستعلموا عن تاريخ مضى يمحي استغرابهم من هبّة أهل بنقردان هذه الأيام.

سنة 1916، كانت "ثورة الودارنة" ضد المستعمر الفرنسي، ثم كانت بنقردان حصنًا كعضد للمقاومة، ثم لم تكن من بعد إلا ضمن شريط جغرافي مغضوب عليه. وفات المتغابون ممّن ظنّوا يُسر اختطافها أن عبد الله عبعاب أحد مؤسسي النواة الأولى للجيش الوطني وتحديدًا الفيلق العسكري الصحراوي في الجنوب التونسي هو ابن بنقردان، وهو الذي قاد معركة النقطة 233 ضدّ المستعمر الفرنسي.

كانت بنقردان حصنًا للمقاومة ضد المستعمر، ثم لم تكن من بعد إلا ضمن شريط جغرافي مغضوب عليه، استقالت الدولة عنها لكن أهلها لم يستقيلوا عن وطنهم

وأما المخلوع بن علي، وعلى بطشه، لم يكن يستفزّ أهل بنقردان لأنه يعلم هبّتهم وخبرها وآخرها، انتفاضة رمضان 2010 والتي دقّت أول مسمار في نعش نظامه مع المقاومة المدنية حينها، ومن طرائفها أن رجال بنقردان كانوا يُكرمون أعوان الأمن بوجبة الإفطار ثم يعودون بعد صلاة التراويح "يُكرمونهم" بالحجارة في مواجهة بطش النظام. وتلك هي صورة أهل الكرم والكرامة في آن.

وفي روايات أصل التسمية، منها ما يذهب وهو الرّاجح أن اسم المدينة يعود للفرنسية Gardanne ويعني "الحارس" نسبة لبرجها الشهير. ومهما كان سبب التسمية، فإن بنقردان هي الحصن باسمها وموقعها بحكم التاريخ الذي لم يزغ عنها تشريفًا يزاوجه تكليف كقلعة دفاع للوطن، فأكدّت عهدها بما استُخلفت وما كان منها إلا إيفاء العهد من أهلها، أهل العزّة والإباء.

اقرأ/ي أيضًا: "دوّار السلاطنيّة".. حياة في قفص الموت

تغابوا وأرادوا اقتحام "ثكنة جلّال"، وقبل غباء ظنّهم بسهولة فكّ دفاعات القوات المرابطة، كان الغباء أنهم فكّروا في خطف بنقردان وأهلها، وحسب المتغابون مقايضة، أن نعطي لأهلها مّما اُستنقص من حقّهم لسنوات، وقالوا لهم ذلك جهرًا غير أن أهلها فزعوا إلى مدينتهم، التي عُرفت في الأصل بقصرها، فلما كانت العِصابة تهمّ بوضع العَصابة جاءها الردّ سريعًا من رجال قصر بنقردان، حتى قال شهيد يحتضر: "يمّا جيت مثقل بالكرتوش" أي جئت مثقلًا بالخراطيش، وهذا مقتطف من أغنية تونسية شعبية ذُكر فيها قصر بنقردان التاريخي.

فرغم قسوة الدولة، لم تسقط قداسة الوطن ولم يكن من الوارد سقوطها ذلك أن دماء الأجداد خُضّبت على الأرض، والأرض عند العرب عنوان شرف يكون في حدّ تجاوزها دمّ. فكانت الهبّة الشعبية، وذلك هو ممّا ليس بغريب، وكان العزّل يرمون بالحجارة، ويجرون وراء أهل الباطل غير خائفين، حتى بات التندّر عن "مكافحة للإرهاب بحضور جمهور". وتلك هي هبّة أهل بنقردان.

ولا تفوت الإشارة أنه يوجد في بنقردان شطّ "بحيرة البيبان"، ولهذه البحيرة منفذ صغير على البحر المتوسّط ولذلك يكون المدّ والجزر بالمجرى الضعيف، فتكون ملوحة الشطّ استتباعًا عالية جدًا لا تضاهيها ملوحة باقي شواطئ تونس، ولذلك ففيها لبعض الأمراض دواء. وحينما يلتقي القصر في التاريخ بشطّ يُداوي في الجغرافيا، تكون الأرض عصيّة عمّا دون أهلها، حصنًا قبالة الأعادي، وإن زاد فيها أن تكون بوّابة تونس نحو الشّرق، فتكون قلعة. وبنقردان هي حصن الوطن وقلعة الصّمود، وأهلها أهل كرم وكرامة، حينما يفزعون، الموت لا يهابون.

اقرأ/ي أيضًا: 

التهميش .. كلمة سر الأقاليم المصرية

أحوال شباب تالة.. لا شيء تغير