16-سبتمبر-2018

تمام عزام/ سوريا

جلست برفقة صديقتي الألمانية، في مقهاي التركي المعتاد في مدينة فرايبورغ الألمانية.

المقهى يرزح تحت أفواج البشر القادمين لمشاهدة المباراة بين روسيا وكرواتيا، مزيج غريب من لغات ولهجات أصولها بعيدة آلاف الكيلومترات عن هذا المكان، لا كحول هنا، لكن الأراجيل الفاخرة تحولت إلى مصيدة ذباب تصنع هذا الغيتو الافتراضي لشعوب المشرق العربي عند صاحب المقهى الذي تشبه شواربه السلاطين العثمانيين، رغم أنه كان بشوشًا جدًا إلا أن إنجليزيته المكسّرة وألمانيتي المكسّرة منعاتنا من التواصل بطريقة لائقة، سوى بضع جمل قرآنية يتلوها في صلاته.

وكالعادة أيضًا أقوم بجولة تفقدية بصرية للمكان وأنا جالس في مكاني، الغالبية العظمى من العرب، طاولة بجانبي عليها مصريان أحدهما معارض والآخر سيساوي يستغيبان صديقًا ثالثًا اقترض من كليهما ولم يعد النقود، طاولة أخرى مغاربية صديقان تونسي ومغربي يجلسان مع صديقتيهما الفرنسيتين من أصل جزائري ويلهجان بمزيج بين العربية والفرنسية، الطاولة عن يساري عليها أربعة خليجيين إماراتي وقطري وسعوديان، تأتي النادلة كردية عراقية إلى طاولتي وتتكلم بلكنتها العراقية المحببة إلى قلبي، وتذكرني بطريقة أو بأخرى بدبلجة مسلسل عدنان ولينا .

أطلب الأرجيلة وأحاول صديقتي عن المباراة حيث يدعم كلانا الفريق الكرواتي، كل لأسبابه، فهي تكره السطوة الروسية على أوروبا وترى نفسها في أي خندق لفريق أوروبي آخر يقابل روسيا، بينما أنا أحب اللعب الكرواتي كيف لا وأسماؤهم تذكرني بلهجة فلاحي وسط فلسطين مع كل هذه الـ"إيتشات" في أسمائهم، كيف لا ومودريتش ما فتئ يذكرني بفيروز. وفوق كل ذلك فأنا دائما أدعم الفرق الصغيرة ذات الاحتمالات الضئيلة بالفوز، لا أعرف كيف تطورت موهبتي تلك في نجاحي دوما بتشجيع الفرق التي لا تربح الكأس. فحتى ألمانيا التي شجعتها تماشيًا مع صديقتي خسرت خسارات أليمة لتخرج مكلومة من الدور الأول.

تعلو الأصوات المشجعة لكرواتيا تلك التي يبدو أنها كادت توحد الشعوب العربية في الغربة، أسأل نفسي أي سحر هذا جمعنا هنا في هذه البقعة من الكرة الأرضية نتحدث في سلام فلا ترى النادلة السورية المنحبكجية تتأثر بزبائنها الخليجيين.

ومصطلح منحبكجي برز إبان الثورة السورية أسوة ببعض المصطلحات الأخرى، وهو يعني أولئك الذين شاركوا في تظاهرات "عفوية" مع صور للرئيس عليها كلمة "منحبك"، وهذا ما نظمته النادلة مع والدها الملحق الدبلوماسي السابق في برلين الذي فصل بعد أن انتشر مقال لأخيها ينتقد النظام، ولم تشفع له تلك المظاهرة، فخطيئة أخيها أكبر من أن تمر مرور الكرام، خاصة أنهم لم يستطيعوا استدعاءه للتحقيق، فاضطرت من أجل تمويل تعليمها في فرايبورغ إلى العمل كنادلة في هذا المطعم.

تثور فجأة حمية صديقها النادل السوري المعارض الذي بالكاد نفد بريشه من سجون النظام، فيطلب منها أن يبدلها على هذه الطاولة فينهض أحد الزبائن السعوديين ويعتذر عن أي تصرف غير لائق من الممكن أنه قد بدا منه تجاه أخته السورية، وفي الحقيقة هم لم يفعلوا أي شيء يمس بها، وتقرّ هي بذلك وتهدئ من روع زميلها الذي بقي يحوم حول الطاولة تحسّبًا فقط.

تعلن النادلة السورية المنحبكجية أنها تدعم الفريق الإنجليزي ذي اللباس الأحمر، غير مدركة أن تلك كانت مباراة البارحة، فيعلق الزبون الإماراتي ضاحكًا بأنها يجب أن تمارس العمل السياسي بسبب خبرتها الكبيرة، بينما تسألني النادلة الكردية عن دولتي وعندما أقول فلسطين تسألني سؤالًا لاذعًا، يجبرني على الاعتراف بجنسيتي الإسرائيلية، التي كانت الفيصل في انقطاعي عن العالم، أو استطاعتي الخروج ولو بعد تفتيش دقيق وعميق إلى أوروبا لتعلم الطب بداية، ومن ثم الانتقال إلى الهندسة المعمارية.

أعود إلى صديقتي وألفت انتباهها إلى هذا المزيج الغريب الموجود هنا، مدينة ألمانية تلم شملنا، خليجيون إماراتيون وسعوديون (أحدهم يدرس معي الهندسة اعترف لي سرًا أنه شيعي) وقطري، في مقهى صاحبه تركي، ونادلان سوري معارض وسورية منحبكجية، نادلة ثالثة كردية عراقية، بالإضافية إلى المغرب وتونس والجزائر ومصر، وأنا الفلسطيني الجالس مع صديقتي في فضاء واحد يجمعنا تحت سقف قرقرة الأراجيل.

دون إنذار مسبق صوت سقوط وارتطام صينية تحمل المشروبات الخفيفة وتحطمها، يتبعها بكاء وصرير أسنان النادلة المنحبكجية يترك فورًا النادل المعارض ما في يده ليذهب متفقدا الأمر، لقد قام بعرقلتها قصدًا أحد الزبائن، الزبون الدنماركي تحديدًا، يدّعي أنه حذرها مرتين ألا تمر من جانبه لأن الأمر يزعجه، بينما يكون منسجمًا في مشاهدة المباراة ونفث دخان أرجيلته، وفي المرة الثالثة مدّ رجله على طولها عمدًا لتشكّل حاجزًا يمنعها من المرور إلى الطاولة المجاورة، يدّعي أنها حريته في أن يمد رجله وكان عليها أن تنتبه إليها بينما تتقفز من طاولة إلى أخرى، يهرع زبائن الطاولة الخليجية فينقسمان بين من يهدئ من روع النادلة المنحبكجية ويكفكف دموعها، وبين من يلوّح بيديه قبالة الزبون الدنماركي الذي انكمش في مقعده فجأة بعد أن تكاثر عدد لائميه، رغم أن لسانه لم يكف عن الرد، بل والشتم بلغته الأم ظانًا جهلهم بها ليكتشف متأخرًا أن أحد السعوديين (السنّي تحديدًا) يدرس الهندسة في الدنمارك، فما أن انتهى من شتيمته التي طالت أمهاتهم حتى تحول العراك إلى عراك بالأيدي، وخلال ثوانٍ وجد العرب المتّحدون أنفسهم يقومون بركل رأس الدنماركي المتكوّر على الأرض، توقف العراك سريعًا عندما حضر صاحب المحل "السلطان" التركي لينذر الزبون الدنماركي أن عليه أن يغادر المحلّ فورًا وإلا اتصل بالشرطة. يخرج ذلك الزبون النزق مصحوبًا بتصفيق حار من كل الزبائن تقريبًا، خاصة العرب بينهم، كأن مصير أممهم ومستقبلهم قد تبلور الآن نحو طرد "المستعمر" وتحقيق العدل والفرقان... إلخ من الكليشهات المجترّة منذ قرون، وتكتمل الاحتفالية بفوز الضعفاء على الأقوياء – مؤقتًّا - ولو كان ذلك بضربات جزاء ترجيحية، ترجيحية كتأرجح وجودنا بين طواغيت نفرزهم من بيننا فيضربون بنا بعضنا البعض حتى يصغر الوطن فينا، فنأتي إلى مقهانا هذا في مجلسنا هذا لنحقق العدل، الذي ينتهي بالنادل المعارض يقبل جبين النادلة المنحبكجية، ثم يعود كل إلى طاولته وأرجيلته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سورٌ حول الصحراء

تمتلكين القدرة على تغيير شكل الحدائق