16-نوفمبر-2022
My Imaginary Country

من الفيلم

المقال هنا هو الترجمة العربية لمقال نشرته مجلة "The Economist".


فيلم انفجاري للمخرج التشيلي باتريسيو غوزمان، يتلقّف من خلاله الاحتجاجات في تشيلي، موثّقًا أكبر اضطرابات تشهدها البلاد منذ سقوط الدكتاتورية في العام 1990.

لربما لم يكن العالم ليعلم الكثير عن تشيلي لولا ما قدّمه باتريسيو غوزمان من خلال عدسته. وغوزمان هو صانع أفلامٍ معارض من مدينة سانتياغو، وقد أرخّ في ثلاثيته الوثائقية الملحمية "معركة تشيلي" (الصادرة بين العامين 1975 و1979) لعملية الإطاحة بالرئيس الماركسي سلفادور الليندي على يدي الجنرال أوغستو بينوشيه في العام 1973 ولفترة القمع الوحشي التي أعقبتها.

بعدما أرّخ في"معركة تشيلي" لعملية الإطاحة بسلفادور الليندي على يدي الجنرال بينوشيه في 1973، يعود باتريسيو غوزمان في فيلمه الجديد ليوثق أكبر اضطرابات تشهدها البلاد منذ سقوط الدكتاتورية

عانى غوزمان الأمرّين لصناعة ثلاثيته، إذ اعتقله مناصرو بينوشيه قبل أن يتم نفيه. وتعرّض المصوّر السينمائي، خورخي مولر سيلفا، للتعذيب ولم يره أحدٌ بعد ذلك. ولكن هُرِّبَ الفيلم إلى خارج تشيلي، وأنجزه غوزمان في كوبا وفرنسا، حيث يعيش حاليًا. أضحى "معركة تشيلي" واحدًا من أبرز الأفلام السياسية في القرن المنصرم، وواصل غوزمان صناعة العديد من الأفلام التي ظفرت بالكثير من الجوائز والتي خصصها لتخليد ذكريات الماضي المؤلم لبلده تشيلي. وهو يقول على هذا الصعيد: "بلدٌ بلا أفلامٍ وثائقية هو بمثابة العائلة التي لا ألبوم صورٍ لديها".

يتميّز أحدث أفلامه، "بلادي كما أتخيلها- Mi Pais Imaginario"، بمستوىً أعلى من السفور والمباشرة مقارنةً بأعماله السابقة. فقد عاد صانع الأفلام إلى تشيلي في العام 2020، أي بعد مرور عامٍ على أكبر احتجاجات شهدتها البلاد منذ سقوط دكتاتورية بينوشيه في العام 1990. ومن خلال التوليف بين التقارير والمقابلات والتعليق الصوتي، ينقل غوزمان الروح الثورية التي انفجرت خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019 حين تظاهر أكثر من مليون مواطن تشيلي (ومواطنة تشيلية) للاحتجاج على التفاوت الطبقي.

أصيب المئات في أعينهم نتيجةً لإطلاق الشرطة للرصاص المطاطي والغاز المسيّل للدموع على أوجه المتظاهرين، والتقى غوزمان بمصوّرة فوتوغرافية فقدت الرؤية في إحدى عينيها إثر إصابتها من قبل الشرطة خلال الاحتجاجات. وعلى الرغم من الرد القاسي، وربما بسبب قسوة هذا الرد، تواصلت المظاهرات لأشهر. وقد صرّح غوزمان على هذا الصعيد: "استعادت تشيلي ذاكرتها. وأخيرًا، تحقق ما كنت أتوق إليه منذ فترتي النضالية الطلابية في العام 1973".

ولعله من المثير للدهشة أنه ارتأى ألا يلتقي إلا بالنساء، مشددًا على الدور المركزي الذي لعبته المجموعات النسوية في الاحتجاجات. وقد ذكر العديد من المتظاهرات أنهن تعرضن للتحرّش الجنسي من قبل الشرطة. وعلى الرغم من ذلك، لم تتم إدانة أي من مرتكبي هذه الأفعال إلا في حالةٍ واحدةٍ حتى اليوم. وانتشرت أغنيةٌ مصوّرة حول الحصانة في وجه العنف الجنسي بعنوان "مغتصب يعترض طريقك Un violador en tu camino" كالنار في الهشيم في صفوف الناشطين المنافحين عن حقوق المرأة بدءًا من مدينة مكسيكو وصولًا إلى برلين. وفي فيلم "تشيليات"، يتم التأكيد على مطلب التشيليات بالمساواة بين الجنسين وعلى أن هذه المساواة ستعود بالفائدة على المجتمع برمته. وتقول إحدى أعضاء مجموعة "لاس تيسيس" الناشطة في هذا المجال والتي كتبت كلمات الأغنية المذكورة أعلاه: "ستصب المساواة في الصالح العام وفي صالح تعزيز الكرامة الإنسانية بصورةٍ عامة".

ويعرض الفيلم مشاهد مؤثرةً للمحتجات وهن يؤدين الأغنية تتخللها مشاهد لأشخاصٍ يفرّون من أمام المدرّعات المزوّدة بقواذف المياه. كما يعرض الفيلم أيضًا مشاهد من "السنة الأولى"، وهو أول أفلام غوزمان الوثائقية حول فترة الليندي الرئاسية، ومشاهد من فيلمه "معركة تشيلي"، كتذكيرٍ بصري بأن المخرج يرى بأن الماضي لن ينفك يطلّ برأسه ويتدفّق إلى الحاضر، إذ يقول غوزمان في تعليق صوتي في الفيلم: "يذكّرني عنف رجال الشرطة بحقبة بينوشيه".

ومع أن الفيلم يُكثر من التلميح إلى أوجه الشبه بين دكتاتورية الماضي وقمع الاحتجاجات في الحاضر، إلا أن غوزمان قد أقرّ بالفوارق فيما بينهما خلال مقابلات أجريت معه. فقد قُتِلَ الآلاف وعُذِّبَ عشرات الآلاف من معارضي بينوشيه. وعلى النقيض من ذلك، خلال العقود الثلاثة التي أعقبت سقوطه، أصبحت تشيلي واحدةً من أرسخ الديمقراطيات في أميركا الجنوبية. وعلى الرغم من أن الشرطة قد ارتكبت انتهاكات خطيرةٍ ضد حقوق الإنسان خلال الاحتجاجات الأخيرة، وفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن الأمم المتحدة في العام 2019، إلا أن تلك الاحتجاجات أدت إلى عمليةٍ ديمقراطية لإعادة صياغة الدستور، الذي وضع في عهد بينوشيه.

يقدم هذا الفيلم الوثائقي صورةً مؤثرةً لتشيلي في الفترة التي أعقبت الاضطرابات، ولكن في ما يبدو أنه تناسٍ متعمدٌ، لا يتم التطرّق إلى الردة السياسية التي تلت ذلك. يذهب غوزمان في هذا الصدد إلى أن الاحتجاجات أفرزت "أجواءً من الحرية والمغامرة والكفاح في الشارع". بيد أن العديد من التشيليين اليوم ينحون باللائمة على الاحتجاجات على اعتبار أنها أفضت إلى إشاعة الفوضى. ومن خلال استفتاء شهدته تشيلي خلال شهر سبتمبر/ أيلول، أي بعد فترةٍ وجيزةٍ من صدور فيلم "بلادي كما أتخيّلها"، رفض التشيليون مسودة الدستور بهامش كبير. وبالتالي، لم يعد ما يدعوه غوزمان بالانفجار الاجتماعي إلا بالقليل حتى الآن، فلعلّ بلاده كما يتخيّلها لا تتطابق تمامًا مع البلاد التي يقول معظم التشيليين أنهم يصبون إليها.