02-فبراير-2020

فشل مؤيدو بريكست في جعل الانفصال مثالُا ناجحًا لأحزاب اليمين الأوروبية (Getty)

بعد العديد من التحولات والمنعطفات، يصبح انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ساريًا بعد يوم الجمعة 31 كانون الثاني/يناير 2020، أي بعد أكثر من ثلاث سنوات من الاستفتاء الذي أجري في 23 حزيران/يونيو 2016. فقد تم إبرام اتفاقية خروج جديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في 17 تشرين الاول/أكتوبر 2019، وتم التصديق عليها في مجلس العموم  من قبل المملكة المتحدة، كما تم التصديق على هذا الاتفاق من قبل البرلمان الأوروبي قبل الموعد النهائي في 31 من الشهر الماضي، لكن لا يزال يتعين توضيح شروط هذا الانسحاب.

فشل مؤيدو بريكست في جعل الانفصال مثالُا ناجحًا لأحزاب اليمين الأوروبية، في دول عديدة، بعد الصعوبات والمآلات المجهولة التي تواجهها بريطانيا

يفتح هذا التاريخ الأخير بالفعل فترة انتقالية تمتد حتى 31 كانون الأول/ديسمبر 2020 ،أو حتى 31 من كانون الأول/ديسمبر من عام 2021 أو 2022 في حالة التمدد، على الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني قد استبعد  بالفعل  في وقت سابق احتمال اللجوء إلى تمديد  الفترة الانتقالية.

اقرأ/ي أيضًا: القفزة البريطانية إلى المجهول

الفترة الانتقالية

في 31 كانون الثاني/يناير 2020 سقطت عضوية  المملكة المتحدة في المؤسسات السياسية في الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، ومجلس الاتحاد الأوروبي، والمفوضية الأوروبية. ومع ذلك، فإن هذا الأمر سيكون  له نتائج محدودة خلال فترة المفاوضات اللاحقة لأنه خلال هذه الفترة الانتقالية، ستظل المملكة المتحدة عضوًا في المؤسسات الاقتصادية واتفاقيات التعاون الأمني، كما أنها ستبقى تُعامل كدولة عضو في الاتحاد الجمركي، وبالتالي ستواصل تطبيق قانون الاتحاد الأوروبي وقرارات محكمة العدل الأوروبية. كما أنه سيتم الحفاظ على الوضع الراهن للمواطنين الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة والمواطنين البريطانيين الذين يعيشون في إحدى الدول الأعضاء.

 وبالمثل، لن تتأثر شروط التبادل خلال هذه الأشهر. ولكن هذا لا يعني أنه لن يحدث شيء. حيث سيكون من الضروري التدقيق باهتمام في النصوص التي سيتم تبنيها من قبل البرلمان البريطاني والحكومة وسيكون من المثير للاهتمام قراءة التقارير البرلمانية حول هذه النصوص، خاصة من مجلس اللوردات الذي يسيطر عليه  بأغلبية ساحقة عرابو قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

النتائج على الصعيد الاقتصادي

رغم المشهد الاحتفالي الذي يسوق له أنصار البريكست، إلا أنه  يمكن القول بالفعل إنه من الصعب للغاية التنبؤ بما ستكون عليه النتائج بعد بضعة أشهر من المفاوضات المكثفة، خصوصًا وأن بوريس جونسون يؤكد بأنه لن يسمح  بتمديد  الفترة الانتقالية  إلى ما بعد 31 كانون الأول/ديسمبر 2020. ففي وقت مبكر من عام 2017، بدأت المملكة المتحدة مفاوضات بشأن اتفاقيات التجارة مع شركائها في الكومنولث وغيرهم. وفي عام 2019 ونتيجة تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي استطاعت  لندن توقيع اتفاقيات تجارية مع شركاء من القارات الخمس. فعلى مدار العام الماضي، تم توقيع 20 اتفاقية تجارة حرة ويجري التفاوض على العديد منها، مما أعطاها أساسًا قويًا لتوسيع أنشطتها التجارية.

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فسيتعين عليه ضمان حماية مصالحه حيث سوف يسعى الفريق المفاوض إلى ضمان الحد الأقصى لمكانة المواطنين الأوروبيين بعد الانتقال وسيحاول منع المملكة المتحدة من التنافس غير العادل مع الاتحاد الأوروبي، من خلال سياسة اجتماعية ومالية صارمة بهدف عدم السماح بتحول المملكة المتحدة إلى ملاذ ضريبي.

وكما يبدو فإن المفاوضين الأوروبيين يدركون  أن بوريس جونسون يريد اتفاقًا ضئيلًا مع الأوروبيين لإبرام اتفاقيات سريعة مع الولايات المتحدة، خصوصًا إذا أخذنا بالاعتبار إن استقبال مايك بومبو، رئيس الدبلوماسية الأمريكية، في 30 كانون الثاني/يناير في لندن، قد يوحي بأن المفاوضات بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية ستكون مصاحبة لتلك التي تبدأ في الأول من شباط/فبراير مع الاتحاد الأوروبي، فهذا الاجتماع  كان أكثر من وضع استراتيجية دبلوماسية للضغط على الاتحاد الأوروبي.

ولكن وبصرف النظر عن التأكيد على أن كل شيء سيكون "رائعًا" وفقًا للخطابة "الترامبية"، فهناك حقائق تفرض نفسها على أرض الواقع حيث تشير البيانات الاقتصادية أن 50 في المئة من التبادلات الاقتصادية للمملكة المتحدة  تتم مع دول الاتحاد الأوروبي ، مقابل أقل من 10 في المئة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي دفع المسؤولين في بروكسل إلى الإعراب عن شكوكهم بشأن القدرة على إصلاح الأنظمة القانونية المتعددة المطبقة على القطاعات الاقتصادية المختلفة خلال 48 أسبوعًا فقط، نظرًا لأن هذا النوع من الاتفاقات التجارية  يخضع لقواعد محددة للغاية. حيث سيكون لاتفاقية التجارة الحرة القادمة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تأثير على ممارسة صلاحيات الاتحاد الأوروبي، وكذلك على سلطات الدول الأعضاء، وبالتالي سيتعين على كل دولة من الدول الأعضاء  التصديق كل منها وفقًا لترتيباتها الدستورية.

ورغم أن الصعوبات معروفة مسبقًا، لأنها تشبه الصعوبات التي أثيرت أثناء التفاوض على معاهدة الخروج، مع ذلك، هناك حقيقتان أساسيتان: أولًا يمتلك بوريس جونسون أغلبية في البرلمان وثانيًا المملكة المتحدة هي الآن خارج الاتحاد الأوروبي، وبالتالي  لا يمكن وضع أمل في العودة إلى الوراء ولن ينجح أي تكتيك تأخير لا تدعمه الحكومة البريطانية. في هذا السياق، يبدو الاتحاد الأوروبي، من زاوية سياسية بحتة هذه المرة، في وضع أقل قوة مما كان عليه خلال المناقشات في الفترة ما بين 2019-2016.

نتائج على الصعيد السياسي

إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ليس بالأمر السار بالنسبة للاتحاد الأوروبي وهو ما عبر عنه بشكل صريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عشية الخروج الرسمي، لأن ذلك  ودون أدنى شك سيؤثر على الوزن التجاري والسياسي والاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. على الرغم من هذا، من الملاحظ أن الدول الأعضاء السبع والعشرين الأخرى قدمت "جبهة موحدة" في المفاوضات مع المملكة المتحدة،  الأمر الذي سمح لتوازن القوى أن يكون  لصالح الاتحاد الأوروبي بوضوح، والذي يمكن تفسيره بعدة عوامل. قد يكون أبرزها الوعي الحاد بالحاجة المطلقة للحفاظ على سلامة السوق الداخلية في قلب الوجود السياسي للاتحاد الأوروبي من خلال  الإجماع على عدم منح المملكة المتحدة مكانة أكثر مواتاة خارج الاتحاد، حتى لا تعزز صعود الأحزاب المناهضة للاتحاد، وقد لوحظ هذا التطور، بما في ذلك في الدول الأعضاء التي تحكمها حاليًا قوى سياسية شعبوية وغير ليبرالية مثل المجر وبولندا.

فمنذ الاستفتاء البريطاني، كان هناك قدر كبير من عدم اليقين بسبب الأزمات السياسية والدستورية التي نشأت حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي داخل المملكة المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الخوف من العواقب الاقتصادية والمالية المترتبة على الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى غلبة الرأي العام المعارض للخروج من الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو. أخيرًا، على الرغم من أن تشديد الرقابة على الهجرة (خاصة وسط أوروبا) كان على رأس أولويات القوى السياسية المؤيدة للبريكسيت خلال حملة الاستفتاء لعام 2016، تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الناخبين يعتقدون أن تنظيم تدفقات الهجرة يتطلب حلولًا على المستوى الأوروبي وليس على المستوى الوطني، فلم تعد مارين لوبان تدافع عن خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، وتعيد تركيز كل انتقاداتها على قضية الهجرة.

 وبالمثل، لم يعد يدعو حزب البديل  في ألمانيا، وهو حزب تم إنشاؤه عام 2013 استجابة لأزمة منطقة اليورو، إلى تخلي ألمانيا عن اليورو والعودة إلى المارك، ويركز خطابه واستراتيجيته السياسية على العواقب السلبية لأزمة اللاجئين بعد عام 2015 والهجرة إلى ألمانيا.

 في إيطاليا، يبدو المشهد السياسي مشابهًا أيضًا حيث يبدو أن الشكوك الناتجة عن المفاوضات المثيرة للجدل حول شروط خروج بريطانيا من المملكة المتحدة قد جعلت العديد من هذه القوى غير مستعدة لقبول المخاطر الاقتصادية المترتبة على ترك السوق الأوروبية المشتركة أو منطقة اليورو في السياق الحالي. وبالتالي، فمن غير المرجح أن يكون الانسحاب البريطاني بمثابة نموذج يحتذى، دليلًا على  صحة تفكك الاتحاد الأوروبي من خلال تأثير الدومينو. على العكس من ذلك، لعبت الخطوة البريطانية دورًا في النموذج المضاد، ومن المفارقات أن هذا الحدث عزز تماسك الاتحاد الأوروبي.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟

يبقى أن نرى ما إذا كانت الدول السبع والعشرين ستظهر قدرًا كبيرًا من التماسك في التفاوض على اتفاقية جديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. لأنه، من وجهة النظر هذه، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم ينته بعد. بطريقة ما، سيشغل التفاوض حول الاتفاقية الجديدة عام 2020 وربما أكثر، لأنه لا أحد يعتقد حقًا أنه يمكن حل كل شيء خلال عام واحد ، على عكس ما يدعي رئيس الوزراء جونسون، وعلى الرغم من أن هذا الأخير لا يبدي مرونةً في هذا الشأن، خصوصًا أنه قد أظهر غالبًا أنه سياسي قادر تمامًا على عكس التزاماته.

لم يعد يدعو حزب البديل  في ألمانيا، وهو حزب تم إنشاؤه عام 2013 استجابة لأزمة منطقة اليورو، إلى تخلي ألمانيا عن اليورو والعودة إلى المارك

من الواضح أنه من المستحيل حتى الآن تعيين التغييرات المستقبلية التي ستنجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، استفادت المملكة المتحدة حتى الآن بشكل مفيد من هذا الطلاق من خلال بقائها "عضوًا" تجاريًا ضمن الاتحاد الأوروبي حتى نهاية العام الحالي على أقل تقدير، وبنفس الوقت استعادت حريتها في التجارة مع شركاء جدد، لا سيما الاتفاقيات التي سيجري التوقيع عليها مع الولايات المتحدة وربما مع الاتحاد الأوروبي. تم ذلك  بشغف إعادة  تكوين العلاقات التجارية مرة أخرى في العالم، ولكن تحقيق ذلك على المدى الطويل  يعتمد على بقاء وهيبة الإمبراطورية القديمة والقارة العجوز.