15-مارس-2025
الذكرى 14 للثورة السورية

سوريون يحتفلون بتوقيع الاتفاق بين الحكومة الانتقالية وقوات "قسد" وسط العاصمة دمشق (رويترز)

يصادف اليوم، 15 آذار/مارس، الذكرى السنوية لانطلاق الثورة السورية عام 2011. غير أن هذه المناسبة، التي كان يُفترض أن تجمع السوريين تحت راية واحدة، تحولت إلى محطة لانقسام مجتمعي حاد، خاصة بعد الأحداث الدامية التي شهدها الساحل السوري خلال الأسبوع الماضي. فقد أسفرت تلك المجازر عن سقوط مئات القتلى على أساس طائفي، مما يهدد بتفاقم الشرخ في النسيج الاجتماعي السوري، ويضع البلاد أمام تحديات أكثر تعقيدًا في المرحلة المقبلة.

قبل عام 2011، كانت سوريا تعيش حالة من الاستقرار النسبي، رافقها إعادة ترتيب للتفاعلات المجتمعية بفعل التحولات الطبقية والاقتصادية، مع توجه البلاد نحو اقتصاد السوق الحر. ورغم أن هذا النهج أدى إلى تحقيق نمو اقتصادي محدود، إلا أنه عمّق الفجوات الاجتماعية وزاد من التفاوت بين الطبقات.

إلا أن المشهد تغير بالكامل مع تبني نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد سياسة القمع العنيف والممنهج، في محاولة لإخماد الاحتجاجات التي بدأت بالمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، قبل أن تتصاعد إلى مظاهرات شعبية اجتاحت البلاد للمطالبة برحيله.

لا تزال سوريا تواجه تحديات متداخلة ومتعددة الطبقات، من التدهور الاقتصادي الحاد، إلى تفاقم الأوضاع الأمنية، وصولًا إلى الانقسامات المجتمعية التي تهدد النسيج السوري

ومع تصاعد آلة القمع، تحولت البلاد تدريجيًا إلى واحدة من أسوأ الاقتصادات العالمية، إن لم يكن الأسوأ على الإطلاق، نتيجة الدمار الهائل في البنية التحتية، وانهيار العملة، والعقوبات الدولية، مما جعل سوريا نموذجًا للدولة الفاشلة اقتصاديًا وسياسيًا.

حقائق وأرقام

حذر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن الاقتصاد السوري لن يستعيد مستوى الناتج المحلي لعام 2010 قبل عام 2080، إذا استمرت معدلات النمو الحالية عند 1.3% سنويًا. ولتقليص هذه المدة إلى 10 سنوات فقط، سيتطلب الأمر تحقيق معدل نمو سنوي يفوق المعدل الحالي بستة أضعاف، بينما يحتاج التعافي السريع إلى زيادة معدلات النمو عشرة أضعاف.

وأكد المدير التنفيذي للبرنامج، أخيم شتاينر، أن التعافي الاقتصادي يتطلب استثمارات طويلة الأمد لإعادة بناء الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مع التركيز على استعادة الإنتاجية، وتنشيط الزراعة، وإعادة بناء البنية التحتية، بما يشمل قطاعي الصحة والتعليم، بالإضافة إلى الطاقة.

وقد بلغت الخسائر الإجمالية للناتج المحلي في سوريا 800 مليار دولار منذ عام 2011، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد الوطني. وأوضح التقرير أن 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، في حين تضاعف معدل الفقر المدقع ست مرات ليصل إلى 66%. كما تسببت الحرب في مقتل 618 ألف شخص، واختفاء 113 ألف شخص قسريًا، وهي إحصائيات لا تزال غير نهائية، في ظل موجة العنف الجديدة التي تشهدها البلاد.

إضافة إلى ذلك، تراجعت الصادرات بنسبة 89%، وانخفض إنتاج النفط من 383 ألف برميل يوميًا إلى 90 ألف برميل يوميًا، بينما تقلصت المساحات الزراعية بنسبة 25%. وأكد الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، عبد الله الدردري، أن مستقبل سوريا يعتمد على إصلاح الحوكمة، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وإعادة بناء البنية التحتية والخدمات الاجتماعية".

ثلاثة سيناريوهات للتعافي

حدد التقرير ثلاثة سيناريوهات لتعافي الاقتصاد السوري، حيث يتوقع أن يستغرق التعافي البطيء 55 عامًا، بينما يمكن تحقيق تعافٍ متسارع خلال 15 عامًا في حال بلوغ نمو سنوي بنسبة 5%. أما السيناريو الأكثر طموحًا، فيتطلب نموًا سنويًا بنسبة 13.9%، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا لكنه ضروري لتعويض الخسائر.

وأكد التقرير أن العقوبات الاقتصادية تشكل أحد أكبر العقبات أمام التعافي، حيث تحد من الاستثمارات الأجنبية وإمكانية الوصول إلى الأسواق العالمية، مما يعرقل عملية إعادة الإعمار، مشيرًا إلى أن التعافي يتطلب إصلاحًا سياسيًا واقتصاديًا شاملًا، ودعمًا دوليًا واسعًا، واستراتيجيات تنموية مستدامة لضمان إعادة بناء سوريا بشكل متوازن ومستدام.

مجازر الساحل تُعقّد المشهد السوري

ورغم أن الاتفاق الذي وُقّع بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) أعطى انطباعًا أوليًا بأن المجتمع المحلي قد خطا خطوة أولى نحو التعافي، فإن المقاطع المصورة والشهادات المحلية الواردة من الساحل السوري تعكس مشهدًا أكثر تعقيدًا، وتؤكد أن طريق سوريا نحو الخلاص لا يزال محفوفًا بالعقبات والمخاطر والتحديات، سواء كانت متوقعة أو مفاجئة، خاصة بعد صدور الإعلان الدستوري المثير للجدل.

وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد تستعد لإحياء الذكرى السنوية للثورة السورية بعد سقوط الأسد، شهدت سوريا اليوم واحدة من أكثر موجات العنف حدةً منذ سنوات. فقد اندلعت الاشتباكات قبل أكثر من أسبوع في الساحل السوري، على خلفية شن مجموعات مسلحة يقودها ضباط موالون للنظام السابق هجمات، رافقها أحداث عنف دامية، مما أسفر عن مقتل المئات من المدنيين، فضلًا عن دمار واسع طال الممتلكات العامة والأراضي الزراعية.

وتأتي هذه المجازر في ظل تدهور غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الساحل السوري، لا سيما في المدن والقرى الريفية، مما أدى إلى تهجير مئات العائلات، وزاد من تعقيد المشهد السوري محليًا وإقليميًا ودوليًا. هذا التصعيد دفع الدول الغربية إلى التلويح بإعادة فرض العقوبات التي تم تعليق جزء منها، ما قد يؤثر سلبًا على جهود إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد، الذي يعاني أصلًا من ركود عميق ومتعدد الأبعاد.

وبحسب شهادات السكان المحليين والنشطاء المدنيين الذين تحدثوا لموقع "الترا سوريا"، فإن الواقع الخدمي في الساحل السوري، خصوصًا في المناطق الريفية، شهد تدهورًا خطيرًا بعد الأحداث الأخيرة، حيث انقطعت الكهرباء والمياه عن العديد من المناطق، مما أدى إلى أزمة إنسانية خانقة. كما تسبّب غياب مراكز إيواء رسمية للنازحين في إجبار العائلات على اللجوء إلى الأراضي الزراعية والأحراش، التي التهمتها النيران، مما جعلها غير صالحة للاختباء.

وأشارت الشهادات التي نقلها "الترا سوريا" إلى أن المبادرات الأهلية تحاول تقديم المساعدة للنازحين عبر توفير المأوى والغذاء والدواء، لكنها لا تزال محدودة في ظل انعدام الأمان في الريف الذي يشهد موجة غير مسبوقة من العنف الطائفي. كما تعاني هذه المناطق من نقص حاد في المواد الأساسية، بعد أن تضررت الأسواق المحلية نتيجة عمليات النهب وإحراق المحال التجارية.

ركود اقتصادي متعدد الطبقات

وفي المقابل، تشهد المناطق الأخرى الأكثر استقرارًا، ترديًا في الواقع الخدمي والاقتصادي، مما يزيد من معاناة السكان المحليين، الفئة الأكثر تضررًا بتداعيات الأزمة السورية. فقد أصبح الإنتاج المحلي ضعيفًا، وتعاني الأسواق من ركود حاد، مع شح في الموارد وانعدام القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وفقًا لمجلة "إيكونوميست" البريطانية.

وقد أثر ذلك بشكل مباشر على قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة الأوضاع الاقتصادية، حيث باتت تواجه صعوبة في تأمين الرواتب، وتوفير المواد الأساسية، ما انعكس على حياة المواطنين الذين يجدون أنفسهم غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

كما تعاني البلاد من أزمة في توفير الكهرباء لمختلف المدن، بما في ذلك العاصمة دمشق، مما أثر على كافة القطاعات الخدمية والاقتصادية، وحتى الصحية. ورغم محاولات الحكومة تأمين مصادر بديلة، إلا أن العقوبات والمخاوف الدولية تعرقل أي حلول عملية، مما يجعل التعافي الاقتصادي مرهونًا بإيجاد بدائل مالية ومصادر مستقرة للطاقة، وهو أمر لا يزال بعيد المنال في ظل استمرار التوترات السياسية والاقتصادية.

بعد 14 عامًا.. سوريا إلى أين؟

اليوم، ومع تحول ديناميكية الصراع في سوريا، ومرور أربعة عشر عامًا على انطلاق الثورة، لا تزال البلاد تواجه تحديات متداخلة ومتعددة الطبقات، من التدهور الاقتصادي الحاد، إلى تفاقم الأوضاع الأمنية، وصولًا إلى الانقسامات المجتمعية التي تهدد النسيج السوري.

وبينما كان يُفترض أن يكون سقوط الأبد الأسدي خطوة نحو الاستقرار وإعادة البناء، إلا أن البلاد غرقت في دوامة جديدة من العنف والركود الاقتصادي والتدخلات الخارجية، وتوسّع الاحتلال الإسرائيلي بصيغته الاستعمارية الحديثة في جنوب البلاد، مما يجعل المستقبل أكثر غموضًا وهشاشة وخوفًا.

وفي ظل هذه الأوضاع، لا يزال التعافي الاقتصادي والسياسي مرهونًا بحلول شاملة وجدية، لا مُجرد إعلانات وتصريحات، ومحاولات خجولة لاسترضاء القوى الغربية، لكنها لا تشمل إصلاحات حقيقية في البنية الاقتصادية، وخلق بيئة آمنة للاستثمارات وإعادة الإعمار، وبناء المؤسسات، وتعزيز العدالة الانتقالية.