تشهد مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي وإدلب وريفيها الشمالي والغربي (شمال غربي سوريا) حركة سكانية غير طبيعية تشير إلى بداية تمهيدية لإعادة ترتيب التركيبة السكانية. يتجلى ذلك من خلال عودة النازحين والمهجّرين السوريين داخليًا إلى مدنهم وبلداتهم الواقعة في مختلف المحافظات بعد سقوط النظام البائد، الذي تسبب في تهجيرهم قسرًا من منازلهم على مدى فترات متلاحقة.
كانت مناطق شمال غربي سوريا تأوي نحو 6 ملايين و606 آلاف نسمة، يشكل النازحون في المخيمات والتجمعات السكانية نسبة 49.82% منهم. ويبلغ عدد النازحين والمهجرين الذين يعيشون في ألف و833 مخيمًا ومركز إيواء وقرى سكنية صغيرة نحو 2 مليون و33 ألفًا و791 نسمة، وفقًا لتقديرات "منسقو استجابة سوريا".
رغم كثافة الحراك السكاني الحالي، إلا أن ذلك يبدو في سياق حراك استكشافي أولي، دون عودة كاملة للعائلات النازحة والمهجّرة إلى منازلها في محافظات حلب وريفها، وريف إدلب الجنوبي، وريف حماة، وحمص، ودمشق، ودرعا. يعود ذلك إلى نسب دمار المنازل الهائلة، إضافةً إلى تضرر البنية التحتية والمرافق العامة والخدمية.
تحدث موقع "الترا صوت" إلى عدد من النازحين والمهجرين من مناطق سورية عدة، يقيمون شمال حلب، واستطلع آرائهم حول العودة إلى منازلهم بعد تحريرها من النظام السابق، وقد أكدوا تأجيل عودتهم إلى الصيف المقبل، ريثما تتضح معالم الفترة الحالية، وخاصةً في ما يتعلق بإمكانية تأهيل وتطوير البنية التحتية والخدمية، والحصول على دعم مالي لإعادة تأهيل منازلهم.
رغم كثافة الحراك السكاني الحالي، إلا أن ذلك يبدو في سياق حراك استكشافي أولي، دون عودة كاملة للعائلات النازحة والمهجرة إلى منازلها
لم يتمكن محمد بدران من إعادة عائلته إلى منزلها في مدينة تل رفعت شمالي حلب رغم تحرير المدينة، وبعد مضي أكثر من 8 سنوات على نزوحهم إلى مخيم الإيمان شمال شرقي مدينة إعزاز قرب الحدود السورية - التركية. يقول بدران في حديثه لـ"الترا صوت": "إن منزلي مدمر بالكامل نتيجة قصف الطيران الروسي لمدينة تل رفعت في عام 2016، وسرقة ما تبقى من محتوياته أثناء سيطرة قسد على المدينة". ويضيف: "يحتاج المنزل إلى إعادة بنائه مجددًا، لذلك سأبقى مع عائلتي في المخيم حتى أتمكن من إعادة البناء تدريجيًا".
وأوضح بدران أن معظم منازل المدينة مدمرة كليًا أو جزئيًا، وتغيب عنها الخدمات الأساسية (الكهرباء، الماء، الصرف الصحي). أما المنازل المؤهلة للسكن فهي قليلة، وعاد النازحون إليها، حيث تصلها خدمة الكهرباء عبر "الأمبيرات" لمدة ثلاث ساعات ليلية، وتتوفر المياه مرة واحدة أسبوعيًا.
لا يختلف حال عبد القادر نعسان، الذي وجد صعوبة كبيرة في التعرف على موقع شقته ضمن مبنى سكني في حي مساكن هنانو، أحد أحياء مدينة حلب الشرقية، نتيجة انهيار البناء بالكامل بسبب قصف جوي من طيران النظام السابق خلال عام 2015. يقول نعسان خلال حديثه لـ"الترا صوت": "وجدت صعوبة كبيرة في التعرف على شقتي السكنية التي كنت أعيش فيها قبل أكثر من 10 سنوات عندما غادرت منزلي نتيجة اشتداد القصف والمعارك بين الجيش الحر وجيش النظام السابق في حلب".
وأضاف أن شقته مدمرة بالكامل، ما اضطره للعيش في منزل شقيقته (لاجئة في تركيا) ضمن الأحياء المجاورة، ريثما تتضح عملية إعادة إعمار المبنى بهدف استعادة شقته. وأوضح أن استئجار منزل في حلب مكلف في ظل الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة، خاصةً أنه لا يملك مصدر دخل ثابت ويعتمد على العمل اليومي بأجور زهيدة.
تل رفعت هي واحدة من مدن ريف حلب الشمالي المدمرة، رغم اختلاف الجهة المسيطرة عليها، كما هو الحال في عندان، حريتان، حيان، ورتيان الواقعة على أطراف طريق حلب - غازي عنتاب (M5). ويبدو الوضع مشابهًا في مدينة تادف شرق حلب على طريق حلب - الحسكة (M4). أما في ريف إدلب الشرقي والجنوبي، فقد تعرضت المدن والبلدات الواقعة على طريق (M5) للتدمير الكلي جراء العمليات العسكرية والقصف الجوي والمدفعي من قبل النظام السابق وحلفائه الروس والإيرانيين بين عامي 2017 و2020.
تركزت عودة النازحين والمهجرين إلى منازلهم ضمن المدن والحواضر السكانية الكبيرة
لم تشهد المناطق المدمرة والخالية من السكان، والتي تفتقر إلى المرافق العامة والخدمات، عودة تذكر. بينما تركزت عودة النازحين والمهجرين إلى منازلهم ضمن المدن والحواضر السكانية الكبيرة مثل مركز محافظات حلب، دمشق، حماة، حمص، ودرعا.
يقول مدير فريق منسقو استجابة سوريا، محمد الحلاج، خلال حديثه لـ "الترا صوت": "إن عدد المدنيين النازحين الذين عادوا إلى منازلهم قارب 90 ألف شخصًا، بينهم 52 ألفًا و461 من سكان المخيمات، و37 ألف و128 من النازحين في القرى والبلدات شمال غربي سوريا".
ويضيف: "إن نسبة 85% من الأشخاص الذين عادوا إلى منازلهم بعد سقوط النظام السابق ينحدرون من محافظات سورية أخرى، بينما مناطق ريف حلب الشمالي والغربي، وريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي (مناطق خفض التصعيد المرتبطة باتفاقية أستانة) تكاد تكون العودة إليها شبه معدومة، حيث يمكن تسميتها بالعودة الاستطلاعية".
وتحدث الحلاج عن وجود 4 تحديات رئيسية تمنع النازحين من العودة إلى منازلهم:
- تدمير المنازل والممتلكات الخاصة: يجد النازح منزله مدمرًا بالكامل، ولا يستطيع أن يقوم بإعادة إعماره، خاصة النازحين في المخيمات لأنهم لو يمتلكون المال كانوا أقاموا في منازل سكنية.
- الألغام ومخلفات الحرب: تعد الألغام ومخلفات الحرب من أبرز الأضرار التي تعلق عودة النازحين إلى منازلهم، وأراضيهم الزراعية في الأرياف لأنها تشكل مصدر رزق مهم، ما يجعل الألغام ومخلفات الحرب تهديدًا للحياة وتحتاج إلى سنوات حتى يتم إزالتها بشكل تدريجي.
- البنية التحتية: تضرر شبكات المياه، الكهرباء، الصرف الصحي، الطرقات، الاتصالات والانترنت وخرجت عن الخدمة وتحتاج إلى إعادة تأهيل.
- المرافق العامة: المؤسسات الحكومية والخدمية، مستوصف، مشفى، مدرسة، مسجد، مخبز، مدمرة بالكامل وتحتاج إلى إعادة ترميم وتفعيل وتعد نقطة مفصلية تساهم في عودة الحياة للأحياء والمدن والبلدات المدمرة.
وأظهرت عملية مسح جوي أولية حجم دمار هائل في جميع المحافظات، سواء في المدن أو القرى أو الأرياف، ضمن خطة تهدف إلى إحصاء حجم الدمار وتحديد القطاعات التي تحتاج إلى إعادة إعمار، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية (سانا) عن وزير الإدارة المحلية والبيئة في حكومة تصريف الأعمال، محمد مسلم.
وأوضح مسلم أن الوزارة تسعى إلى تأسيس قاعدة بيانات واضحة عن حجم الدمار، ووضع خطط وأهداف تتناسب مع متطلبات المرحلة القادمة، مشيرًا إلى أن الوزارة ستعتمد على فرق متخصصة ومحترفة لإجراء عمليات الإحصاء، بالإضافة إلى ورش عمل تطبيقية لإعادة إعمار جميع المرافق العامة المتضررة.
وفي تقريره الأولي، تحدث فريق "منسقو استجابة سوريا" عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والمرافق والمنشآت الخدمية العامة في خمس محافظات، هي: حلب، حماة، إدلب، حمص، وريف دمشق. وقد توزعت الأضرار على 107 مستشفيات ومراكز صحية، و498 مدرسة ومنشأة تعليمية، و437 فرن خبز، و198 مسجدًا ودور عبادة، إضافة إلى تضرر نحو 358 كيلومترًا من الطرق، و48 جسرًا، و47 برج اتصالات، و56 محطة مياه، و682 كيلومترًا من شبكات الصرف الصحي.
إعادة إعمار المرافق العامة وتقديم الخدمات يساهم في إعادة جزء من الاستقرار لكنه لا يحل المشكلة لأن العائلات النازحة تعاني من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة لا يمكن تجاوزها
ويرى الباحث المتخصص في قضايا السكان والمجتمع في مركز جسور للدراسات، بسام السليمان، أن البنية التحتية والمرافق الخدمية العامة تعد من أهم مقومات إعادة الحياة إلى المناطق والتجمعات السكانية المتضررة بفعل القصف والحرب.
وقال خلال حديثه لـ"الترا صوت": "إن إعادة إعمار المرافق العامة وتقديم الخدمات يساهم في إعادة جزء من الاستقرار، لكنه لا يحل المشكلة، لأن العائلات النازحة تعاني من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، ولا يمكن تجاوز هذه الظروف في ظل وجود المنازل المدمرة التي تحتاج إلى آلاف الدولارات لإعادة إعمارها".
وأضاف: "إن الحالة الاقتصادية والمعيشية للعائلات في أدنى مستوياتها، فلا يمكنهم الانتقال دون وجود مداخيل شهرية كافية، وهي في الوقت الحالي لا تغطي أساسًا احتياجات المعيشة الأساسية. فكيف ستستطيع الأسرة تخصيص جزء من مدخولها لبناء أو ترميم المنزل؟"
وبلغ عدد المنازل السكنية المدمرة، حسب رصد فريق "منسقو استجابة سوريا" في محافظات حلب، حمص، إدلب، حماة، وريف دمشق، نحو 58 ألف منزل، منها 16 ألفًا و333 منزلًا مدمرًا بشكل كامل، و21 ألفًا و844 منزلًا مدمرًا بشكل جزئي، ونحو 19 ألفًا و483 منزلًا متضررًا بشكل طفيف.
ويؤكد الباحث أن إعادة الحياة إلى المدن والبلدات المدمرة تحتاج إلى تضافر الجهود المحلية والدولية لتجاوز المحنة، لأن الاقتصاد السوري منهار كليًا، ولا بد من اتخاذ إجراءات حقيقية لإعادة الحياة إلى سوريا.
ويتفق الحلاج مع السليمان في حديثه لـ"الترا صوت" على ضرورة تضافر الجهود، لكنه يرى أن الأمر يحتاج إلى وقت للعودة إلى وضع مشابه لما كان عليه في عام 2011 من حيث البناء وتوافر المرافق العامة، مشيرًا إلى أن "مؤتمر إعادة الإعمار لن يسير نحو تقديم تكاليف جميع مخططات الإعمار بشكل مباشر، وإنما على مراحل، وهذه المراحل ستمتد لسنوات لإعادة بناء الدمار في المدن والحواضر السكانية".
ويعتقد الحلاج أن خطط الاستجابة السريعة مهمة، وذلك عبر تقديم دعم مالي مباشر لأصحاب المنازل المتضررة التي تحتاج إلى إعادة ترميم، بتكلفة مالية تتراوح بين 500 و3000 دولار أمريكي، مما يسهل عودة العائلات إلى منازلها.