09-مارس-2020

صحيفة الحياة (Getty)

قبل أقل من عامين على احتفال صحيفة الحياة بالذكرى الثمانين لتأسيسها على يد الصحفي اللبناني كامل مروة في كانون الثاني/يناير من عام 1942، أعلنت الصحيفة المرموقة توقف نسختها الإلكترونية عن الصدور، بعد قرابة عامين على إيقاف نسختها الورقية الدولية، مؤذنةً بذلك بنهاية حقبة مهمة من تاريخ الصحافة العربية، وتضع تساؤلات كبيرة مرتبطة بمستقبل الصحافة العربية سواء أكانت إلكترونية أو ورقية، بعدما أصبحت مرهونةً بسياسيات حكومات المنطقة العربية حتى تلك التي كانت تحظى باستقلالية مالية في سبعينيات القرن الماضي.

بدأت عاصفة من الشكوك تُثار في تقارير الصحافة العربية حول مستقبل الصحيفة العريقة منذ منتصف عام 2016، حين ظهرت تغييرات كبيرة على سياستها التحريرية التي كانت داعمة لاحتجاجات الربيع العربي، تحولٌ ظهر سريعًا على رئيس تحريرها غسان شربل بتقديمه استقالته في تشرين الثاني/نوفمبر من العام عينه، وإعلان انتقاله إلى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية المملكوكة للحكومة السعودية، وما تبعه من تغييرات في أولويات المحررين والمراسلين وكتاب الأعمدة الذين انتقلوا مع شربل إلى الشرق الأوسط.

بدأت عاصفة من الشكوك تُثار في تقارير الصحافة العربية حول مستقبل صحيفة الحياة العريقة منذ منتصف عام 2016

كان لهذا التغيير الأثر الأكبر في الصحيفة التي شهدت مع اندلاع احتجاجات الربيع العربي سجالات فكرية بين كتابها العرب المتنوعين، سجالات كانت تصب في خانة تفكيك بنية الديكتاتوريات العربية في وقت لم يكن العالم العربي يشهد مثل هذا الانفتاح الديمقراطي، بالأخص بعد أن وجدت الأنظمة العربية نفسها وحيدةً في بادئ الأمر تواجه غضبة شبان الربيع العربي، لتكون الصحيفة واحدةً من المنابر المميزة بنشرها قطع صحفية تحليلية من أقصى كتابات اليسار الداعمة لانتفاضة الربيع العربي إلى زاوية مدارات الخاصة بالشاعر السوري الإشكالي أدونيس.

اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يقترحه الخبراء لإنقاذ الصحافة الورقية من الانقراض؟

بعد أسبوع تقريبًا من إعلان الصحيفة إغلاق بوابتها الإلكترونية بشكل رسمي، غرّد رئيس تحرير الحياة الصحفي السعودي سعود الريس عبر صفحته الرسمية على تويتر معلنًا استقالته من رئاسة تحرير الصحيفة، وكتب قائلًا: "بعد أكثر من 19 عامًا قضيتها في دهاليز صحيفة الحياة، أتنحى اليوم عن رئاسة تحريرها (صحيفة الحياة) على أمل أن ترى النور مرةً أخرى على يد رجل الإعلام الأول الأمير خالد بن سلطان".

في مراجعة سريعة لمحتوى الصحيفة ما بين عامي 2002 – 2012، يمكننا أخذ الحالة السورية كمثال عليها، لكونها فترة زمنية كان لها أثر على تشكيل الوعي السياسي والثقافي بسبب سياسة الانفتاح الجزئية التي شهدتها الحياة الاجتماعية نتيجة لما عُرف حينها بمرحلة التطوير والتحديث المرتبطة بتولي رئيس النظام السوري بشار الأسد مقاليد السلطة في البلاد، كانت الصحيفة تشكل منبرًا مهمًا للمثقفين السوري في نقاشاتهم الدائمة حول مستقبل العمل المدني في سوريا، وفي أيام كثيرة كان يُفتقد حضورها في المكتبات بسبب منع الجهات الرقابية تداولها في الأسواق، لنشرها قصاصات خبرية لبيان عن المرصد السوري لحقوق الإنسان يتحدث عن حادثة اعتقال أو استدعاء لأحد الأسماء المعارضة للنظام السوري للتحقيق، وكانت تمنع أحيانًا لنشرها خبرًا يتجاوز 50 كلمة.

خلال هذه الفترة أصبحت الصحيفة منصةً لأبرز الكتاب والمثقفين العرب الذين عملوا على إثرائها بمحتوى مميز ومختلف عمّا كان سائدًا، ومن سوريا كانت الكتابات التحليلية التي تنتقد تعاطي النظام السوري مع مجموعة السياسين والمثقفين الذين وقعوا على إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي في عام 2005، وانتهت بإصدار حكم بالحبس خمس سنوات على عدد كبير من الأسماء التي وقعت على البيان.

ومع انطلاق انتفاضة الربيع العربي، كانت الصحيفة منبرًا للأصوات المعارضة للأنظمة العربية، بمن فيهم الأصوات السورية، التي كتبت عشرات المقالات التي يمكن استخدامها كمرجع عند محاولة تأريخ البدايات الأولى للربيع العربي مع ما صاحبها من سجالات فكرية متبادلة، غير أن الموقع الإلكتروني الذي كان شعاره "الحياة عقيدة وجهاد" لم يعد موجودًا عبر منصات البحث، بعدما اختفى سابقًا مع توقف صدور الطبعة الورقية، وألحق بعدها بعام بإيقاف الطبعة الورقية الخاصة بالمملكة ودولة الإمارات فقط في العام الماضي.

يمكننا القول هنا إن الأزمة المالية التي ضربت الصحيفة لم تكن بريئة لكنها لم تكن حاسمة في انهيارها المالي، فقد سجل أول تراجع لسياسة الصحيفة التحريرية مع الصعود السياسي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان مطلع عام 2015، وهو ما كان مرافقًا لتطور كبير في السياسة الخارجية للرياض بتحولها لموقف الدول الداعمة للثورات المضادة للربيع العربي، هذا التحول بالسياسة السعودية المحلية ظهر واضحًا في تغطية الصحيفة للأخبار العربية، وأدى لعزوف مئات القراء عن متابعتها بعدما أصبح المحتوى مختلفًا لدرجة كبيرة عن السابق، لتبدأ منذ عام 2018 بإغلاق مكاتبها تباعًا في لندن والقاهرة، ثم بيروت، وأخيرًا مكتب دبي.

هناك عامل مهم في إغلاق الصحيفة أبوابها نهائيًا، يتمثل في عدم مواكبتها للصحافة الإلكترونية المعاصرة على عكس الصحف الغربية التي أعادت هيكليتها بإيقاف الطبعات الورقية مقابل تطوير المحتوى الرقمي، ومن هذا الباب يمكننا السوق هنا على سبيل المثال تجارب صحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز الأمريكيتين، إلى جانب صحيفة الغارديان البريطانية، ولدينا أيضًا تجربة صحيفة النهار اللبنانية التي ركزت في إعادة هيكليتها قبل أعوام على المحتوى اللبناني أكثر من العربي، غير أن الحياة التي اختارت الوقوف إلى جانب الرياض لمقاومة المد الشعبي للرئيس المصري جمال عبد الناصر في سوريا ولبنان، كما أراد لها مؤسسها مروة أن تكون الأمر الذي أدى لاغتياله في عام 1966، لم تكن لتستطيع الوقوف مجددًا في ظل التغييرات السياسية التي طرأت في المملكة.

بالتزامن مع تراجع متابعي صحيفة الحياة على المستوى العربي، كانت الرياض مدفوعةً بسياسات ولي العهد الفانتازية تؤسس لمرحلة جديدة من الصحافة المدعومة سعوديًا، بدأتها بإعادة هيكلة صحيفة الشرق الأوسط اللندنية التي يمكن لمسها من خلال تصفح سريع لمحتوى الموقع الإلكتروني، وقراءة عشرات القطع الصحفية موقعةً بأسماء كتاب سابقين قرأنا لهم سابقًا في الحياة، قبل أن تُطلق في وقت لاحق من العام السابق النسخة العربية لموقع إندبندنت البريطاني بكادر من ضمنهم صحفيين سابقين في الحياة أيضًا.

كانت الرياض مدفوعةً بسياسات ولي العهد الفانتازية تؤسس لمرحلة جديدة من الصحافة المدعومة سعوديًا

لذلك لا يمكن القول إن تجاذبات الأزمة المالية أو تراجع الحكومة السعودية عن تمويل الصحيفة، أو حتى ما يشاع من أحاديث عن ارتباط أزمتها المالية بحادثة اعتقال الأمراء ورجال الأعمال السعوديين في فندق الريتز كارلتون قبل أكثر من عامين سببًا في إفلاس الصحيفة التي قاد إلى إغلاقها؛ بقدر ما كان لتحول السياسة السعودية الدور الأكبر في ذلك، فالقرار بإغلاق الموقع الإلكتروني يعني طمس أرشيف لعشرات السنين بمنعه من الوصول للباحثين أو المهتمين بالشأن العام العربي، إذ إنه حتى صحيفة السفير اللبنانية عندما أغلقت أبواب موقعها الإلكتروني أبقت على نسخة أرشيفية إلكترونية للباحثين.

أقرأ/ي أيضًا: عن زلات الأصابع في الصحافة

ويمكن التأكيد على ذلك من خلال ملحوظة توقيت إعلان إغلاقها الذي جاء برفقة حملة الاعتقالات التي طالت أمراء سعوديين من الأسرة الحاكمة بتهمة التواطؤ على تنفيذ انقلاب ضد ولي العهد السعودي، وفيما العالم العربي يغوص في عشرات التقارير التي تتحدث عن الأزمة الداخلية بين أركان العائلة الحاكمة في الرياض، قررت إدارة الصحيفة إغلاق موقعها الإلكتروني بهدوء حذر دون أن يلحظ أحد غيابها، كحال اختفاء النسخة الورقية أو حتى عندما توقف موقعها الإلكتروني عن التحديث لأكثر من أسبوع تقريبًا.

هكذا، اختارت الصحيفة إغلاق أبواب موقعها الإلكتروني بسبب عدم إمكانيتها لتجاوز أزمتها المالية، وحتى إن كانت أسباب إغلاقها المالية مقنعةً بالنسبة للقراء أو المهتمين بتأريخ الصحافة العربية، فإن حذف أرشيفها إلكترونيًا لا يمكن أن يكون مقنعًا رغم ما قد يساق من تبريرات لذلك، لأنه إن دل فإنه يدل على أنه قرار سياسي أكثر من أن يكون قرارً ماليًا، فالأزمة التي كانت تواجه الصحيفة منذ خمسة أعوام على الأقل يُعرف أن مسببها سياسات الرياض الجديدة التي لم تعد مواكبة للحراك السياسي على المستوى العربي.

 

أقرأ/ي أيضًا:

هل أنتج الانفجار السوري ثقافًة بديلة؟

الصفحة الثقافية وسؤال الجدوى