منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبعد عملية "طوفان الأقصى"، وإعلان إسرائيل بدء العدوان على قطاع غزة، وفتح حزب الله "جبهة الإسناد" من الجنوب، تدحرجت الأوضاع الأمنية في لبنان حتى وصلت إلى ذروتها في 23 أيلول/سبتمبر الماضي، واستمرت على شكل حرب موسعة لمدة 66 يومًا، متسببةً بأضرار جسيمة على البنيان الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، حيث نزح أكثر من مليون و400 ألف مواطن بين أيلول/سبتمبر و27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهو اليوم الذي تم فيه توقيع اتفاق وقف إطلاق النار. ورغم انحسار تأثيرات العدوان بعد الاتفاق، إلا أنها لم تنتهِ ولا تزال مستمرة حتى اللحظة.
ورغم أن إسرائيل لم تستهدف في عدوانها الأخير البنية التحتية، مثل الجسور ومحطات الكهرباء والمطار والمرافئ البحرية، بنفس الوتيرة التي استُهدفت بها سابقًا، وذلك لتكريس ادعائها أنها تستهدف بنية حزب الله فقط، إلا أنه وبعد مرور أكثر من شهرين على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، لا تزال إسرائيل تنفذ عمليات تفجير للوحدات السكنية، خاصة في القرى الحدودية، كما تواصل قصف المرتفعات والوديان ومجاري الأنهار بشكل مستمر في الجنوب والبقاع، متذرعةً بمواصلة تدمير البنية العسكرية لحزب الله. فما هي أهم تداعيات العدوان؟ ومن سيقوم بإعادة الإعمار؟
ملف البيئة والسكان
يؤكد الخبراء أن تداعيات العدوان الأخير على لبنان ستظل قائمة لسنوات، سواء من حيث التأثير المباشر على القطاعات الاقتصادية المختلفة، أو من جانب التغيرات الديموغرافية التي طالت السكان، سواء بسبب تبدل أماكن سكنهم في انتظار إعادة الإعمار، أو بسبب عدد الضحايا المتزايد.
يؤكد الخبراء أن تداعيات العدوان الأخير على لبنان ستظل قائمة لسنوات، سواء من حيث التأثير المباشر على مختلف القطاعات الاقتصادية، أو من ناحية التغيرات الديموغرافية التي طالت المواطنين
ورغم عودة العدد الأكبر من النازحين بعد العدوان، تؤكد أرقام المنظمة الدولية للهجرة أنه وحتى 12 شباط/فبراير الجاري، لا يزال 115,234 نازحًا داخليًا غير قادرين على العودة إلى بلداتهم، حيث يتمركز 76% منهم في خمس مناطق رئيسية من أصل 24 منطقة تستضيف النازحين، وهي: صور، صيدا، النبطية، عاليه، وبيروت.
ووفقًا للأرقام، فإن 45% من النازحين ينتمون إلى محافظة بنت جبيل، إضافةً إلى 20% من محافظة صور، و13% من محافظة مرجعيون. واليوم، مع انتهاء المهلة المحددة لانسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، سيبقى السواد الأعظم من النازحين غير قادر على العودة بسبب دمار بيوتهم كليًا أو تضررها جزئيًا جراء العدوان.
بحسب مرصد الصراع والبيئة، يُقدر الحطام الناتج عن تدمير المباني بـ 350 مليون قدم مكعب، ومن المحتمل أن يحتوي على مواد ملوثة سامة، مثل الأسبستوس، التي يرفع التعرض لها مخاطر الإصابة بسرطان الرئة والحنجرة والمبيض.
وتؤكد البيانات وقوع 195 حادثة استخدام للفسفور الأبيض المحرم دوليًا في جنوب لبنان، وهو من الأسلحة الحارقة التي تسببت بحرائق واسعة النطاق، لها عواقب دائمة على المناطق الزراعية والموائل الطبيعية. وأدى ذلك إلى تدمير آلاف الدونمات من حقول الزيتون، إلا أن المسح الدقيق لم يتم بعد بانتظار انسحاب الجيش الإسرائيلي من قرى الجنوب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود الفوسفور في التربة يحد بشكل مباشر من نمو النباتات، حيث يؤدي إلى زيادة حموضة التربة، مما يقلل الإنتاج الزراعي ويحرق المواد العضوية فيها. وتشير التقديرات الرسمية إلى تعطل النشاط الزراعي في 130 ألف هكتار من الأراضي الزراعية، بين 23 أيلول/سبتمبر و27 كانون الأول/ديسمبر 2024، وهي فترة توسع العدوان، علمًا أن هذه المساحة تمثل ربع الأراضي الزراعية في لبنان.
تداعيات العدوان الاقتصاديّة
تأثرت جميع القطاعات الاقتصادية بشكل مباشر وغير مباشر جراء العدوان، لكن قطاع السياحة والخدمات كان من بين الأكثر تضررًا، حيث شهد انخفاضًا حادًا منذ العام الماضي. وبعد تدهور الأوضاع الأمنية، أوقفت العديد من شركات الطيران رحلاتها من وإلى لبنان، بسبب قرب الضاحية الجنوبية لبيروت من مطار رفيق الحريري الدولي، حيث يقع المطار ضمن نطاقها الجغرافي.
ورغم بعض التهديدات الجدية بقصف المطار خلال العدوان، إلا أنه لم يُستهدف بشكل مباشر، لكنه تضرر بسبب الضربات التي استهدفت منطقتي الأوزاعي وطريق المطار المحاذية له.
كما شهد قطاع المطاعم والفنادق انهيارًا شبه كامل خلال 66 يومًا من الحرب في الجنوب، وتأثر بشكل جزئي في البقاع، بينما شهد تراجعًا ملحوظًا في المناطق الأخرى نتيجة استقبال أعداد كبيرة من النازحين.
في كانون الثاني/يناير الماضي، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريرًا بعنوان "من الأزمة إلى التعافي.. السلطات المحلية تواجه واقع ما بعد الحرب"، وقدّر أن لبنان سيعاني من انكماش اقتصادي بنسبة 9.2% في عام 2025 مقارنةً بسيناريو عدم وقوع العدوان، وأنّ مفاعيل الانكماش ستستمرّ حتى عام 2026.
سجّل المسح 989 منشأة من البنية التحتية المدمّرة، تشمل المدارس والمستشفيات والطرقات ومحطات تكرير المياه والمباني الحكومية، بالإضافة إلى 36 محطة تحويل كهرباء فرعية، 17 منها مدمّرة بالكامل، و18 محطة إرسال، تسع منها دُمّرت بشكل كامل.
📌 الجيش اللبناني بدأ الانتشار في قرى وبلدات جنوب لبنان بالتزامن مع انتهاء مهلة اتفاق وقف إطلاق النار.
📌 الجنوب اللبناني شهد عودة آلاف اللبنانيين إلى قراهم التي هُجروا منها جراء العدوان الإسرائيلي على #لبنان منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
📌 الوحدات المختصة في الجيش… pic.twitter.com/pUx6tOwXl4
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) February 18, 2025
وبحسب التقرير، شمل المسح 135 بلدية أبلغت عن تضررها جراء العدوان، في حين لم يشمل 62 بلدية أخرى بسبب وقوعها في مناطق معزولة. ووفقًا للمسح، وحتى تاريخ إجرائه، تبين أن الأصول المتضررة نتيجة العدوان تبلغ 90,076 أصلًا، تشمل وحدات سكنية، ومحال تجارية، ومنشآت زراعية، بالإضافة إلى بنى تحتية مثل المدارس والمستشفيات ومنشآت المياه والاتصالات والكهرباء، حيث دُمر 23% منها بالكامل، بينما تعرضت النسبة المتبقية لأضرار جزئية.
وسُجل أكبر عدد من الوحدات السكنية المدمرة بالكامل في الضاحية الجنوبية، أما عدد المحال التجارية المتضررة فقد بلغ 10,421 محلًا، حيث وقع الضرر الأكبر على المحال في أقضية محافظة النبطية (كليًا وجزئيًا)، في حين جاء قضاء بعبدا - أي الضاحية الجنوبية - في المرتبة الأولى من حيث عدد المحال التجارية المدمرة كليًا. كما تضرر 89 مبنى إداريًا تابعًا لبلدية أو اتحاد بلديات، منها 70 مبنى دُمر بالكامل بسبب القصف المباشر.
في قطاع الزراعة، يتحدث تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن مسح 14,762 منشأة زراعية متضررة، تشمل هذه المنشآت الأراضي المزروعة، إضافةً إلى مزارع الدواجن والمواشي والأسماك ومصانع الغذاء، حيث سُجل أكبر عدد من المنشآت المتضررة في قضاء بعلبك، شرق لبنان.
وفي السياق نفسه، أفادت منظمة الصحة العالمية بأن العدوان الأخير حدّ من قدرة المزارعين على الوصول إلى محاصيلهم، ما أدى إلى تأخر زراعة الموسم الشتوي لعام 2025 في محافظتي الجنوب والنبطية، الأمر الذي أثر سلبًا على إنتاج الحبوب في لبنان، مثل القمح والبقوليات. وجاء في التقرير نفسه أن "الحرب تضافرت مع التغير المناخي، مما أدى إلى ارتفاع الكلفة الشهرية للسلة الغذائية، التي تمثل الحد الأدنى من الإنفاق للبقاء على قيد الحياة، بنحو 17% في كانون الأول/ديسمبر 2024، مقارنةً بالشهر نفسه من عام 2023".
ماذا عن إعادة الإعمار؟
بحسب البنك الدولي، فإن تكلفة العدوان على الاقتصاد اللبناني تتجاوز 8.5 مليار دولار، في حين قدرت الدولية للمعلومات أن الأضرار المباشرة وغير المباشرة للحرب الأخيرة تصل إلى 11.86 مليار دولار، أي ضعف تكلفة عدوان تموز/يوليو 2006.
وبحسب الجهات الرسمية اللبنانية، ستوكل الدولة تنفيذ ملف إعادة الإعمار إلى مجلس الجنوب في محافظة لبنان الجنوبي والنبطية والبقاع الغربي، بالإضافة إلى الهيئة العليا للإغاثة في بيروت والضاحية الجنوبية والبقاع والشمال.
في غضون ذلك، قامت جمعية "مؤسسة جهاد البناء الإنمائية" التابعة لحزب الله بإجراء مسح أولي، وتمّ تسوية وضع معظم المواطنين مرحليًا عبر تعويضات لدفع إيجارات السكن أخذها المواطنون عبر "القرض الحسن"، لكنّ عمليّة رفع الأنقاض ورغم المباشرة بها، إلّا أنّها بطيئة للغاية، وذلك لأسباب متعددّة وكثيرة، ففي ظلّ إفلاس الدولة، وتدهور المؤسّسات الحكوميّة، يعدّ تمويل إعادة الإعمار والتعافي من بعد العدوان أكثر الملفات خطورة وعرضة للتأثر بالأجواء السياسية في لبنان اليوم، ففي الوقت الذي يعوّل فيه المسؤولون على المساعدة من المجتمع الدولي والعربي، قد يحول اضطراب الوضع بين لبنان والمحيط العربي دون ذلك.
على المستوى الحكومي
من جهة أخرى، يبدو أن اتفاق وقف إطلاق النار قد فرض العديد من القيود على العلاقة بين لبنان وإيران، مما زاد من تعقيد الوضع. فالولايات المتحدة الأميركية، بصفتها الراعية للاتفاق، وخصوصًا بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تتفق مع المجتمع الدولي على معارضة دعم إيران لعملية إعادة الإعمار في لبنان، وذلك لرغبتهم في تحجيم دور إيران في المنطقة ومنع حزب الله من استعادة نفوذه وقوته.
📌 الرئيس اللبناني جوزاف عون أكّد أنّ المعتدين على الموكب "سينالون جزاءهم".
📌 جوزاف عون وجّه الجيش وقوى الأمن بإنهاء الممارسات المتعلقة بالشغب وقطع الطرق التي شهدها طريق مطار رفيق الحريري الدولي منذ يومين.
اقرأ أكثر: https://t.co/5kMwuzcL0z pic.twitter.com/DtQ0beHcwN
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) February 15, 2025
لكنّ رئيس الحكومة الجديدة، نواف سلام، أكد عقب تشكيل الحكومة مباشرةً أن إعادة الإعمار التزام حكومي وليس مجرد وعد. وفي سياق متصل، وخلال آخر إطلالة لأمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، اعتبر أن الدولة اللبنانية ملزمة بإعادة إعمار بيوت ومصالح مواطنيها، ما فسره كثيرون على أنه محاولة من الحزب لإلزام الدولة اللبنانية بالقيام بما لن يستطيع القيام به، في ظل القيود والشروط الدولية المفروضة عليه، والتي ستعيق تدفق الأموال من إيران.
جدير بالذكر أن وزير الأشغال في الحكومة الجديدة، فايز رسامني، استقبل أمس الإثنين وفدًا من البنك الدولي، وجرى خلال اللقاء التباحث في ملف مساعدات إعادة الإعمار، وبناءً على ذلك، تم الحصول على قرض بقيمة 250 مليون دولار أميركي، ليكون حجر الأساس في بدء تحريك الملف.
يعتبر الكثيرون أن الدعم العربي والدولي للبنان اليوم مرهون بتغيير توجهات الدولة العامة، وأن الدعم لإعادة الإعمار لن يتحقق دون ذلك. فهل سيدفع المواطنون المتضررون ضريبة الاضطراب السياسي؟ أم أن الأطراف السياسية ستمنح هذا الملف الأولوية على كافة الاعتبارات الأخرى؟ مجرد تساؤلات، والأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عنها.