20-يونيو-2017

حققت حركة ماكرون "إلى الأمام" فوزًا ساحقًا في الانتخابات التشريعية الفرنسية بدورتيها الأولى والثانية (كريستوف أرشامبولت/ أ.ف.ب)

بعد دخول قصر الإيليزيه الشهر الماضي، جدّد "المدّ الماكروني" نسبة إلى الرئيس الفرنسي المنتخب حديثًا إيمانويل ماكرون، ثورته وذلك بعد ضمانه للأغلبية في قصر البوربون، وهو مقرّ الجمعية العمومية، حيث فازت حركته "إلى الامام" وحليفتها الحركة الديمقراطية، بـ350 مقعدًا من إجمالي 577 مقعدًا، وذلك بعد تنظيم الدور الثاني للانتخابات التشريعية يوم الأحد 18 حزيران/يونيو الجاري.

وأكدت نتائج هذه الانتخابات على التغيرات الجذرية التي يشهدها المشهد السياسي في فرنسا، حيث بات ماكرون في ظرف ستة أسابيع بين موعدي الدور الثاني لكلّ من الانتخابات الرئاسية والتشريعية، هو السيّد الأوحد له مقابل انحدار تاريخي للقوى التقليدية وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الذي فاز بـ30 مقعدًا فقط مقارنة بـ288 مقعد له في البرلمان السابق.

اكتمال المشهد الوردي بالنسبة لماكرون بفوزه بالانتخابات التشريعية، لا يعني إلا بداية محاسبة الفرنسيين له على وعوده الانتخابية

ولا تنحصر دلالات التغييرات على مستوى الفاعلين السياسيين فقط، إذ بلغت نسبة المقاطعة 57.4%، وهي النسبة الأعلى في تاريخ الجمهورية الخامسة، كما كانت نسبة المقاطعة في الدور الثاني للرئاسيات هي الأعلى منذ نحو خمسين سنة.

ماكرون.. أغلبية رئاسية لا تمنع الحذر

لم يكن مفاجئًا فوز ماكرون بالأغلبية البرلمانية بعد إعلان نتائج الدور الأول قبل أسبوعين، بل لعلّ النتائج النهائية بالحصول على 350 مقعدًا هي أقل ما توقعته أغلبية نتائج استقصاءات الرأي التي رجحت تجاوز حاجز 400 مقعد. غير أن هذه النتائج، وتحديدًا فوز حركة "إلى الامام" بـ308 مقعد وفوز الحركة الديمقراطية التي يقودها حليف ماكرون ووزير العدل في حكومته بـ42 مقعدًا، حقّقت هدف ماكرون وهو ضمان أغلبية برلمانية مريحة ترافقه طيلة السنوات الخمس القادمة.

اقرأ/ي أيضًا: وفاز ماكرون.. هكذا تصنع الحظوظ في عالم السياسة

وقد قدم، وفق الأعراف، الوزير الأول ادوارد فيليب استقالة حكومته، ليقوم رئيس البلاد بتكليفه مجدّدًا لتشكيل حكومة ستتوجّه للبرلمان الجديد بهدف الحصول على ثقته. ومن المرجّح أن يحافظ فيليب على الأغلبية الساحقة من الوزراء، فيما قد يقتصر التحوير على أولئك الذين سيتفرغون للعمل النيابي.

ويُساعد في الحفاظ على التركيبة الوزارية عاملان محدّدان، أولهما فوز جميع أعضاء الحكومة المرشحين بمقاعدهم في البرلمان، وهو ما تمّ بالفعل، وثانيًا عدم الحاجة للدخول في مفاوضات مع أي حزب بعد ضمان أغلبية برلمانية تتجاوز 60% من المقاعد، بل إن حركة "إلى الأمام" لوحدها، بدون الحركة الديمقراطية، تحوز 53% من المقاعد. 

وقد ساهم هذا الصعود المفاجئ لمرشحي الحركة السياسية الجديدة، لأن تبلغ نسبة التجديد في مقاعد البرلمان 75%، وهي النسبة الأعلى في تاريخ الجمهورية الخامسة، وكذلك لأن تبلغ نسبة مقاعد النساء 39%، ليكون البرلمان الجديد هو الأكثر حضورًا للنساء في تاريخ البلاد.

بيد أن اكتمال المشهد الوردي بالنسبة لماكرون، لا يعني إلا بداية عدّاد محاسبة الفرنسيين له نظير الوعود التي تضمنها برنامجه الانتخابي. كما أنّ الرئيس الشاب الذي لا طالما وُصف بأنه رجل غامض، وهو الذي لا يعترف بتصنيف اليمين واليسار؛ يُواجه تحدّ رئيسي وهو المحافظة على أغلبية رئاسية متوائمة وداعمة له طيلة مدة ولايته، إذ تشكلت القوائم الانتخابية لحركته بين مستقلين ويمينيين واشتراكيين، مع نصيب وافر للمجتمع المدني، فيما يبدو خليطًا هجينًا توحّد خلف الرئيس الوافد وحركته الجديدة، إذ يظلّ الرّهان في عدم تفتّت هذه الأغلبية حين مناقشة القوانين المقدّمة من الحكومة خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي.

انحدارٌ مستمر للقوى التقليدية

بعد هزيمتهما التاريخية بخروجهما من الدّور الأول في الانتخابات الرئاسية، تجدّدت لوعة القوتين التقليديتين في المشهد الفرنسي، وهما اليمين الجمهوري والحزب الاشتراكي، الذي يبدو أنه الأكثر حسرة بهزيمة تاريخية قاسية يصفها عديد المراقبين بأنها انعكاس لأزمة اليسار الفرنسي.

وتراجعت مقاعد الحزب الحاكم السابق وحلفائه من أحزاب الخضر، من 331 إلى 46 مقعدًا، منها 30 خاصّة بالاشتراكيين، ليعلن زعيمهم جان كريستوف كومباديليس، استقالته مباشرة إثر هذه الهزيمة التاريخية. ويواجه حاليًا الحزب الاشتراكي رهان ترميم بيته الداخلي انطلاقًا من إعادة النظر في أطروحاته السياسية والاقتصادية، وصولًا لتصعيد جيل جديد من القيادات يستطيع انتشال الحزب من أسوء وضع يعيشه في تاريخه.

أكثر التقليديين تحسرًا هو الحزب الاشتراكي الذي لاقى هزيمة ساحقة في التشريعيات بتراجع عدد مقاعده من 331 إلى 46 فقط!

ويعتبر مراقبون أن هذه الهزيمة التاريخية كانت منتظرة، بالنظر لحالة الشد والجذب داخل الحزب طيلة السنوات الخمس الماضية، مع تزايد الصراع بين أجنحته، إذ تشكلت كتلة اشتراكية في البرلمان سنة 2014 معارضة للخيارات الاقتصادية للحكومة التي يقودها مانويل فالس، والذي يقود جناحًا يوصف بأنه الأكثر ليبرالية داخل الحزب.

اقرأ/ي أيضًا: هولاند.. نهاية فاترة لرئيس ضعيف

وقد بلغ الصراع داخل الحزب أشدّه لدرجة جُنوح مانويل فالس، الخاسر في الانتخابات التمهيدية، لدعم إيمانويل ماكرون على حساب مرشح الحزب بونوا هامون، والذي يتبنّى أطروحات توصف بأنها يسارية طوباوية.

من جهة أُخرى، تراجعت مقاعد اليمين الجمهوري من 194 إلى 112 مقعدًا، غير أنه ظلّ القوة الثانية في البرلما،ن ولكن هذه المرّة خلف حركة "إلى الأمام" وليس الحزب الاشتراكي.

وبعد الهزيمة المريرة التي تلقاها اليمين في الانتخابات الرئاسية، بعد الفضيحة المالية لمرشحه فرانسوا فيون؛ يُواجه الآن تحديًا هو الآخر يتعلق بترميم بيته الداخلي، وهو الذي كان يُمني النفس بالفوز في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهو ما اعتبر مؤكدًا قبل سنة فقط، أي قبل تشكيل ماكرون الذي يوصف بـ"الساحر"، لحركته السياسية التي أكلت الأخضر واليابس في السياسة الفرنسية.

صعود خافت لليسار واليمين الراديكاليَيْن

على يسار الاشتراكيين من جهة، وعلى يمين الجمهوريين من جهة أخرى، حقق كلّ من اليسار الراديكالي والجبهة الوطنية، نتائج إيجابية مقارنة بالانتخابات السابقة، بحيث زادت مقاعد اليسار الراديكالي عبر قائمة "فرنسا الأبيّة" بقيادة المرشح الرئاسي السابق جون لوك ميلانشون، بالإضافة لقائمة الحزب الشيوعي، لتبلغ 26 مقعدًا، فيما قفزت مقاعد الجبهة الوطنية اليمينية بقيادة المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان، من مقعدين إلى 8 مقاعد.

استطاع كل من اليسار الراديكالي واليمين المتطرف إحراز تقدم نسبي، وإن كانا في الحقيقة رهنٌ للنظام الانتخابي الذي يران أنه يظلمهما

إلا هذه النتائج تظلّ متواضعة، فما زال كلّ من اليمين المتطرف واليسار الراديكالي قوتين غير مؤثرتين في البرلمان، وذلك رغم حالة الصخب والنتائج التاريخية المحقّقة في الانتخابات الرئاسية قبل بضع أسابيع، فلا تزال هاتان القوتان في الانتخابات التشريعية ضحية النظام الانتخابي وهو نظام الاقتراع بالأغلبية المطلقة على جولتين، حيث دائمًا ما تتحالف القوى الوسطية في الدور الثاني على حساب البقيّة.

اقرأ/ي أيضًا: "ماري لوبان".. الفاشية تبحث محاربة التطرف

ولذلك، دائمًا ما تطالب زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان، باعتماد النظام النسبي، وقد صرّحت بعد إعلان نتائج يوم الأحد، بأنه لو تم اعتماد هذا النظام لفازت الجبهة لوحدها بـ120 مقعدًا، فحصيلة 8 مقاعد هي متواضعة جدّا خاصة بعد ترشح لوبان للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية قبل شهر، وحصولها على زهاء 10 ملايين صوت.

إلا أن هذه الحصيلة لن تمنع الجبهة أن تحدث الكثير من الصخب في البرلمان، وذلك بعد نيل لوبان أخيرًا لمقعدٍ عن دائرة في مقاطعة "ثبا دو كالي في" أقصى شمال فرنسا، وهو المقعد الذي خسرته قبل خمس سنوات بفارق ضئيل جدّا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بعد الدرو الأول من التشريعيات الفرنسية.. تخوفات من "دكتاتورية" ماكرون

زيارة ماكرون إلى المغرب.. دكتاتور فرنسا الهادئ بلا وزرائه