30-سبتمبر-2022
تاريخ من التقاطعات بين الاستعماري والإمبراطوري لبي بي سي عربي (Getty)

تاريخ من التقاطعات بين الاستعماري والإمبراطوري لبي بي سي بالعربية (Getty)

يوم الخميس 30 أيلول/ سبتمبر 2022، أعلنت بي بي سي عن خطة لإغلاق البث الإذاعي بعشر لغات وإنهاء حوالي 382 وظيفة في قسم الخدمة العالمية في محاولةٍ منها لتوفير أكثر من 28 مليون جنيه إسترليني من النفقات السنوية لخدماتها الدولية. وضمن خطة التقليصات التي كشفت عنها بي بي سي، أعلن عن إغلاق إذاعة بي بي سي العربية بعد 84 عامًا من انطلاق بثها الإذاعي، فيما تم إغلاق الإذاعة نهائيًا يوم 27 كانون ثاني/ يناير 2023. لكن لماذا أطلقت بي بي سي إذاعةً عربيةً أصلًا؟

يظهر تاريخ بي بي سي بالعربية كثيرًا من التقاطع ما بين الاستعماري والامبراطوري وحروب بريطانيا العسكرية والثقافية، ويأتي الإغلاق مع طي بريطانيا صفحة طويلةً في تاريخها

كانت بي بي سي عربي أول إذاعة أجنبية تطلقها هيئة البث البريطاني، وكان ذلك في 3 كانون ثاني/ يناير 1938، وجاءت كردٍ مُباشر على إذاعة باري الإيطالية، وهي إذاعة تابعة لإيطاليا الفاشية كانت تحدد ساعات يومية من البث باللغة العربية، وتقدم رسائل مؤيدةً للقومية العربية وقضية فلسطين، وذلك من أجل محاولة التأثير في المنطقة العربية ومنافسة النفوذ البريطاني والفرنسي في المنطقة العربية، وتحديدًا دول المتوسط العربية في آسيا وأفريقيا. وإلى جانب برامجها السياسية والدعائية، كانت تبث فقرات من الأغاني العربية أيضًا.

في المرحلة الأولى لراديو باري، لم تنزعج بريطانيا كثيرًا منه، لكن الأمور بدأت تتغير في عام 1935. بدأ الراديو خطابًا معاديًا بشكلٍ أكبر لبريطانيا وسياساتها، ولذلك تأسست إذاعة فلسطين مطلع عام 1936، وكانت موجهةً للناطقين بالعربية في فلسطين ومحيطها، لكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة لبريطانيا ووزارة الخارجية وشؤون المستعمرات فيها. وسرعان ما تقرر حاجة بريطانيا إلى إذاعة تواجه إذاعة باري، وعبّر عن ذلك وزير شؤون المستعمرات البريطانية ويليام أورمسبي جور في عام 1937، بقوله: "لقد حان الوقت الذي أصبح فيه من الضروري ضمان العرض الكامل والقوي لوجهة النظر البريطانية للأحداث في منطقة ذات أهمية حيوية للإمبراطورية".

جندي يقرأ نداءً بالعربية في الإذاعة وتظهر خلفه صورة رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل (Getty)
جندي يقرأ نداءً بالعربية في الإذاعة وتظهر خلفه صورة رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل (Getty)

ويظهر أن البُعد الاستعماري كان سببًا أساسيًا وراء قرار بريطانيا مخاطبة المُستعمَرين العرب تحديدًا، وذلك خوفًا من تمدد التوترات والثورات في المناطق، حيث كانت فلسطين تشهد ثورتها الكبرى التي انطلقت عام 1936. وفي بداية عملها كانت تبث الإذاعة لمدة 65 دقيقةً يوميًا وفيها نشرة إخبارية واحدة، وفي عام 1940 كانت تبث لمدة ساعة و25 دقيقة مع نشرتين إخباريتين، وفي عام 1942 وصلت إلى ساعتين من البث.

ومع حلول نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتفع عدد ساعات البث الإذاعي حتى وصل إلى 3 ساعات، فيما كانت مصادر الأخبار تأتي من وزارة الخارجية البريطانية عبر السفارات والأشخاص أصحاب المناصب الدبلوماسية البريطانية حتى عام 1943، وقت إنشاء مكتب للإذاعة في العاصمة المصرية القاهرة مما أتاح جمع الأخبار العربية مباشرةً.

أمّا النقاشات الأولى لتأسيس بي بي سي عربي، فتظهر أن الاهتمام البريطاني انصب على صورة الامبراطورية، خاصةً أن إذاعة باري كانت تلقى الكثير من السخرية نتيجة اللغة العربية الركيكة والعامية المستخدمة فيها. ومع نهاية الحرب العالمية، ومع نقاشات طويلة حول الخدمات الإعلامية المقدمة بكافة اللغات الأجنبية وإمكانية التخلي عن بعض اللغات، كانت القناعة لدى وزارة الخارجية البريطانية تدور حول أن تبديد القدرة على تشكيل الرأي والتأثير فيه في الخارج سيكون تهورًا. ولذلك تم الاحتفاظ بالبث الإذاعي باللغات الأجنبية بسبب ما اعتبر "المصلحة الوطنية، ومن أجل الحفاظ على النفوذ البريطاني والهيبة في الخارج"، بالطبع المقصود هو الهيبة الاستعمارية للإمبراطورية.

getty

وكانت التحديات السياسية سببًا طوال الوقت في استمرار عمل الإذاعة، فبعد فترة قصيرة من نهاية الحرب العالمية الثانية، انطلقت الحرب الباردة. وفي نقاشات وزارة الخارجية البريطانية تقرر أنه من المهم مواجهة الشيوعية في أوروبا وآسيا لكن من دون "دعاية صارخة". وجاء البث الإذاعي وقتها استجابةً للحرب الباردة وانحسار الامبراطورية البريطانية وخسارة بعض الثورات. أما المفارقة الفعلية، وبالأخص بعد العدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس، فهي أنه وبينما كان النفوذ البريطاني يتضاءل في العالم، كانت الإذاعة تحظى بشهرة واسعةً ومسموعية كبيرة.

عرفت الإذاعة لاحقًا توترات بين إدارتها ووزارة الخارجية البريطانية. وفي أواخر السبعينات اقترحت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر تقليص بعض الخدمات المقدمة باللغات المتعددة باستثناء الروسية ولغات أوروبا الشرقية، في خطوة لاقت استهجانًا حتى من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ومستشاره للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي، اللذين اعتبرا أن تأثير هذه الخطوة سيكون ضارًا على "المعلومات في العالم الحر بما لا يتناسب مع الأموال التي يتم توفيرها". وكانت توجهات تاتشر هذه تشكل جزءًا من عدم رضاها عن خدمات البث الإذاعي وتغطيتها السياسية،وتحديدًا الخلافات حول الانتقادات التي توجه إليها من قبل خدمة البث البريطانية.

وباستمرار كان هناك عودة للإذاعة العربية، فمع هجمات 11  أيلول/ سبتمبر 2001، ظهرت أولوية للاستثمار في خدمات البث الإعلامي في العالم العربي وجنوب غرب آسيا، ورغم أنه في عام 2005 تم إغلاق 8 إذاعات ناطقة باللغات الأوروبية وتحديدًا الشرقية منها، والتي كانت من زمن الحرب الباردة، ظهر التوجه نحو ما عرف غربيًا بـ"الحرب على الإرهاب"، ولذلك وجه الاستثمار في القطاع العربي، والذي انعكس في انطلاقة تلفزيون بي بي سي عربي في عام 2008، في محاولة من الإمبراطورية الاستعمارية، للبحث عن نفوذها ولو كان من خلال صورة وعلى الشاشات.

كما انحسرت الإمبراطورية تاركة ندوبًا عميقة في تاريخ المنطقة، ها هو صوتها يتلاشى تاركًا صدى

يظهر تاريخ بي بي سي بالعربية كثيرًا من التقاطع ما بين الاستعماري والامبراطوري وحروب بريطانيا العسكرية والثقافية، ويأتي الإغلاق مع طي بريطانيا صفحةً طويلةً في تاريخها مع وفاة الملكة إليزابيث الثانية. بدأت الإذاعة مع إعلان إعدام فلسطيني على يد سلطات الاستعمار البريطاني، حيث كان هذا أول خبر أذيع من لندن بالعربية مطلع عام 1938، وها هي تنتهي الآن دون أن يتغير الواقع كثيرًا، لكن بهدوء وبلا ضجيج أو مخاوف إستراتيجية. وكما انحسرت الإمبراطورية تاركة ندوبًا عميقة في تاريخ المنطقة، ها هو صوتها يتلاشى تاركًا صدى.