16-يناير-2025
بسطات الكتب

عودة بسطات الكتب المستعملة إلى دمشق بعد سقوط النظام (الترا صوت)

يُعتبر "جسر الحرية" (الرئيس سابقًا) الذي يتوسط العاصمة دمشق، إحدى أكثر النقاط الحيوية في العاصمة، فالجسر الذي بات يحمل عددًا من المسميات الشعبية في محاولة للتخلص من بقايا "جمهورية آل الأسد"، ومن هذه المسميات "الحرية، الشعب، عبد الباسط الساروت"، يعد الجزء السفلي منه مركزًا لتجمع حافلات النقل العام لغالب الأحياء، ومن فوقه تمر خطوط أخرى.

ولقربه من منطقة البرامكة التي تحتوي على عدد كبير من كليات جامعة دمشق، تحول جزء من الجسر إلى مكان لتجمع "البسطات"، التي تقدم المواد الرخيصة لفقراء العاصمة ومتوسطي الحال. وأكثر ما كان يلفت النظر هي "بسطات الكتب المستعملة"، التي تعد مقصدًا لكل الطبقة المثقفة والطلاب الجامعيين الباحثين عن مراجع علمية وبحثية بأسعار رخيصة، في ظل ارتفاع أسعار الكتب غير المقدور عليه بالنسبة لغالبية القراء قبل سقوط النظام.

رؤى المصطفى التي تخرجت من كلية الهندسة المدنية قبل عدة سنوات، تعتبر أن القراءة هي الملاذ الآمن بالنسبة للسوري من فوضى المعلومات وسرعة الأخبار التي تفضي إلى التشتت الذهني، وتقول لموقع "الترا صوت": "في بداية البحث عن كتب للقراءة كان مصروفي الجامعي الذي أحصل عليه من والدي لا يمنحني رفاهية الحصول على ما أريد". وتضيف الطالبة الجامعية: "سمعت أول الأمر من عدة طلاب بوجود بسطات للكتب المستعملة، واستغربت الأمر أول مرة إذ لم يسبق لي أن شاهدت هذه البسطات لكون خط السير من الكلية إلى منطقة المزة يمر بقرب الجسر أو فوقه، ولم يخطر في بالي أن هناك مثل هذه الخدمة في العاصمة".

وتوضح المصطفى في حديثها: "بعد الزيارة الأولى للبسطات التي كانت في العام 2014 بدأت أجمع مكتبتي الخاصة من الكتب. الأسعار رخيصة والعناوين التي أجدها في هذه البسطات لا تتواجد في المكتبات العمومية، وهذا ما خلق علاقة شخصية بيني والبسطات من جهة، وبين أصحابها من جهة أخرى، وحين تمت إزالتها لم أملك القدرة على التعبير عن الغضب والحزن إلا بليلة بكاء طويلة، لم أملك حينها إلا هذا الفعل للتعبير عما بداخلي".

أكثر ما كان يلفت النظر تحت الجسر هي 'بسطات الكتب المستعملة'، التي تعد مقصدًا لكل الطبقة المثقفة والطلاب الجامعيين الباحثين عن مراجع علمية وبحثية بأسعار رخيصة

ويقول عبد الله المحمد في حديثه لـ"الترا صوت": "كان من المحزن جدًا أن تكون إزالة بسطات الكتب مجرد "تريند" عابر لصفحات السوريين في ذلك الوقت. لم يكن هناك رد فعل منظم يجعل من الضغط على محافظة دمشق في زمن الأسد بما يجبرها على العودة عن القرار الذي أساء للعاصمة، وسكانها، وكأن الأمر حينها كان بمثابة رسالة من النظام الذي خشي طوال عقود حكمه من تنامي الإدراك لدى الناس".

ويرى المحمد أنه "لأن كان الخوف سيد الأحكام في سوريا، فقد كان للقرار الذي ربطه السوريين برغبة تاجر ما من المرتبطين بالنظام أن يستثمر المساحات التي تشغلها بسطات الكتب وسواها تحت الجسر بما يدر عليه أرباحًا مرعبة نتيجة لحيوية المكان في ذلك الوقت، وصلت شخصيًا لمرحلة أوقن بها أن نظام الأسد وأزلامه الاقتصاديين لن يتركوا أي متنفس لللفقراء، إلا ويأخذوه لأنفسهم".

التعاطي الإعلامي مع الحادثة التي وقعت في 16 تشرين الأول/أكتوبر من العام 2024 لم يكن مثمرًا، إذ إن التبريرات المعلبة لدى مسؤولي النظام السابقين كانت تكتب قبل تنفيذ أي قرار من الممكن أن يستفز الشعب أو شريحة منه. وخلال حدث إزالة الكتب المستعملة، كان لمحافظ دمشق على سبيل المثال تصريحًا قال فيه إن المحافظة أنذرت أصحاب البسطات أكثر من مرة قبل إزالتها، وفي تصريح آخر، قال عبر إذاعة "شام أف إم" المحلية إنه: "سيتم التواصل مع أصحاب هذه البسطات ونقلهم إلى أماكن منظمة في إحدى المناطق الشاغرة بدمشق، والتي ستكون مخصصة لبيع الكتب المستعملة"، وفهم من التصريح حينها أن ملف بسطات الكتب قد تم إغلاقه إلى غير رجعة.

وكان الروائي خليل صويلح قد كتب عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في رسالة مفتوحة إلى وزيرة الثقافة ومحافظ دمشق قال فيها: "بعد أن أغلقت معظم مكتبات العاصمة أبوابها، وأمام ارتفاع أسعار الكتب في بقية المكتبات، لم يبق من فسحة للقرّاء سوى بسطات الكتب المستعملة، إلا أن المذبحة التي طالت هذه البسطات المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس بقرار من محافظة دمشق، سدّت آخر رئة لتنفّس هواء المعرفة، الهواء الذي يميّز كل عواصم العالم من باريس إلى القاهرة وبغداد".

وأضاف صويلح في رسالته: "كأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر. إن ذريعة تجميل المكان (بالطبع لسنا ضد ذلك حتى في زمن الحرب) ينبغي أن تخصّ كل أنواع البسطات ما عدا بسطات الكتب بوصفها ملاذًا جماليًا ومعرفيًا، وكان الأجدى إعادة رصيف كلية الحقوق إلى هويته القديمة، الرصيف الذي يعج اليوم بكل أنواع القبح ما حجب إحدى التحف المعمارية عن نظر العابرين. أعيدوا لنا هذا المكان الأليف، فما أقلّ الزاد وما أطول وحشة الطريق".

 

الحكاية بلسان أصحابها

أدهم الذي كان يمتلك بسطة من بين 13 بسطة تعمل على بيع الكتب المستعملة في منطقة "تحت جسر الرئيس"، يقول في حديثه لـ"الترا صوت": "استخدمت المحافظة الجرافات لإزالة البسطة التي كنت أضع فيها نحو 20 ألف كتاب بعناوين مختلفة تتوزع بين التاريخ والأدب والسياسة والدين، وتمت مصادرة هذه الكتب من قبل سلطات النظام ولم يسمح لنا باسترجاعها"، وتابع موضحًا "حين تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي قضية بسطات الكتب، كذبت المحافظة لتقول للناس إنها قامت بإنذار أصحاب البسطات أكثر من مرة قبل الإزالة، ولم يدم الاعتراض أو محاولة الضغط على السلطات آنذاك من قبل الناس إلا يوم واحد، ثم نسي الأمر".

ظلت هذه المكتبات مقصدًا لكل باحث عن نوادر الكتب والمراجع... إلى أن قرر النظام السابق وبشكل مفاجئ أن يزيل كل بسطات الكتب

يضيف الشاب الثلاثيني الذي عاد إلى مكان عمله بعد سقوط النظام: "النظام كان يخاف من الكتب، ويخاف من أن تكون الثقافة في متناول الناس وأمام أعينهم، ربما كانت الخشية من أن يعرف السوريون تاريخ بلادهم هي ما تثير ذعره، لذى كان يحاول حصر ما يتلقاه السوريين من ثقافة بالمناهج الدراسية وحسب، فهو من كان يتحكم بوضع هذه المناهج وفقًا لرغباته وسياساته"، ويوضح بالقول: "اليوم بعد إن عدت إلى العمل أقدم للناس غالبًا الكتب الجديدة والتجارية، فالعناوين الهامة التي كانت ضمن البسطة التي جرفها النظام، مجهولة المصير بالنسبة لي، وربما يكون قد أتلفها عن بكرة أبيها من خلال رميها في مكبات القمامة أو ما شابه، لا يمكن وصف الأمر إلا بأنه عدواة بين النظام والحياة".

من جانبه، يقول إحسان حب الرمان لـ"الترا صوت": "أعمل في بيع الكتب منذ ما يزيد عن خمسين عامًا، بدأت بالمهنة منذ أن كان والدي يمتلك بسطة للكتب في منطقة المسكية بالقرب من المسجد الأموي، حيث كانت بدايتي في المهنة من خلال مساعدته في العمل"، ويتابع إحسان قائلًا إنه انتقل بعد ذلك "للعمل تحت جسر الرئيس في بسطة مستقلة، إلى أن قامت سلطات النظام بتجريف ما أملكه من كتب ومصادرته على الرغم من أنني أمتلك رخصة للإشغال صادرة عن محافظة دمشق منذ ما يزيد عن 20 عامًا".

ويرى إحسان في حديثه أنه من "الغريب أن محافظة دمشق نفسها من كانت قد سلمتنا قبل بضع سنوات مدرجات لعرض الكتب بشكل حضاري، لكنها حينما قررت أن تخلي المكان من وجود الكتب، لم تعتبر لهذا الترخيص، ولم تسمح لي بأن أنقل الكتب التي جرفت أمام عيني، كانت الخسارة كبيرة جدًا".

حب الرمان الذي يعرف بـلقب "أبو أسامة"، يضيف في حديثه لـ"الترا صوت" أنه "كانت الرقابة مشددة على الكتب الدينية، خاصة كتب ابن تيمية وسيد قطب، وما شابه، وذات مرة تعرضت للمسائلة من قبل مخابرات النظام بسبب كتاب "الطب النبوي"، الذي يتحدث عن وصفات طبية من الأعشاب وما شابه، بقيت القصة حينها لعدة أيام تعرضت خلالها للمضايقات، قبل أن ينتهي الأمر بدفع رشوى مالية". ويقول: "الرشاوى كانت حاضرة في حياتنا المهنية، عناصر شرطة المحافظة والمراقبون والمخابرات، الكل يطلب منا الرشاوى وعلينا الامتثال وإلا كنا سندخل في داومة نحن في غنى عنها".

ويتفق معه أدهم على وجود قائمة طويلة "من العناوين الممنوعة التي لا يجب أن نبيعها وألا نقتنتيها على المستوى الشخصي، وغالبًا هي الكتب الدينية التي كان يعتبرها النظام تهديدًا مباشرًا له، إضافة إلى كتب السياسة التي تتعارض والإيديولوجيا الخاصة به، وحتى كتب الأدب التي يصدرها مثقفون أو أدباء مغضوب عليهم لم تكن مسموحة"، لافتًا إلى أن "هناك كتب تمنع من التداول على الرغم من أن نظام الأسد يبقي مؤلفها في الداخل السوري. كان موضوع الكتاب وبيعه معقدًا ومربكًا جدًا في زمن النظام ونأمل ألا يبقى الأمر كذلك بعد سقوطه".

أحلام بسيطة

البحث عن كتب الروائي خالد خليفة (1964 – 2023) في المكتبات السورية كان مضيعة للوقت، إذ على الرغم من أن خليفة كان يقيم بشكل دائم في سوريا، إلا أن النظام لم يكن يسمح لمؤلفاته بأن تجتاز الحدود إلى الداخل، وينقل عن خليفة أنه كان قال في أكثر من جلسة مع رفاقه ومحبيه: "حلمي أن أرى مؤلفاتي كاملة على رف في مكتبة في سوريا قبل أن أموت"، لكن حلم مؤلف "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة أو مديح الكراهية" لم يتحقق، إذ رحل قبل 14 شهرًا وثمانية أيام من سقوط النظام، ولو إنه عاش حتى يقاسم السوريين فرحهم بـ "فرار بشار الأسد"، لكن اليوم سيرى حلمه حقيقة.

عادت "بسطات الكتب"، إلى تحت جسر الرئيس إلا أن ما تعرضه اليوم في غالبه من الكتب الجديدة الي يصفها أصحاب البسطات بـ"التجارية"، لكنهم في حالة انتظار وترقب لأن يأتي شخص ما ليبيع كتبًا مستعملة وقديمة ليبدؤوا رحلة جمع النوادر والتحف والعناوين الهامة من جديد، علمًا أن من يبيعون كتبًا مستعملة هم غالبًا من المثقفين والقرّاء الذين يقسوا عليهم الزمن حدًا للتخلي عن مكتابتهم للحصول على رغيف الخبز، أو من ورثة أحد القرّاء القدامى الذين وجودوا أن المكتبة جزء ثقيل وغير هام من التركة، فباعوها.

بسطات الكتب
سيارة تابعة لمحافظة دمشق تصادر الكتب المستعملة (الترا صوت)

أول الكتب التي اقتنيتها كنت قد سرقته من صناديق لكتب مخزنة لدى جدي لأمي، وتطور الأمر حدًا صرت أبحث فيه وأنا بعمر 15 عامًا عن مكتبات تبيع بأسعار رخصية، غير أن ما كان موجودًا في مدينة الحسكة من مكتبات لم يكن يبيع إلا القرطاسية والكتب الدينية التي يرضى عليها النظام، ونادرًا ما تجد مكتبة تحتوي على كتب ثقافية وبعناوين لا تبتعد كثيرًا عن الأدب ذائع الصيت من الروايات والشعر، وحين كنت سألت للمرة الأولى عن أي كتاب للشاعر مظفر النواب (1934 – 2022)، عرفت أن حتى الأدب يخضع تداوله في سوريا لرضا وقبول النظام السابق، وعلى الرغم من أن النواب كان لاجئ سياسي مقيم في دمشق، إلا أن كل مؤلفاته كانت ممنوعة، ولم يكن في بدايات الألفية الثانية أمامنا خيار سوى الحصول على أشرطة كاسيت للنواب وبشكل سري.

لاحقًا حين وصلت إلى دمشق كطالب جامعي تفاجئت بوجود عدد كبير من المكتبات التي توفر كتبًا متنوعة، لكن مقصدنا ونحن أصحاب الدخل المحصور بما يصلنا من ذوينا أو ما نحصل عليه من العمل الذي نمارسه بعد الجامعة، كان باتجاه "بسطات الكتب"، نحصل منها على الكتب المستعملة أو الجديدة بأسعار تتناسب وحجم الإنفاق الذي نسمح لأنفسنا به على مثل هذه المتع، وظلت هذه المكتبات مقصدًا لكل باحث عن نوادر الكتب والمراجع من طلاب الجامعة والقارئين إلى أن قرر النظام السابق وبشكل مفاجئ أن يزيل كل بسطات الكتب من تحت "جسر الرئيس"، ضمن مشروع كانت محافظة دمشق تحضر لإطلاقه تحت عنوان "إعادة تأهيل جسر الرئيس"، وهو المكان الذي تمت إعادة تأهيله أكثر من مرة خلال سنوات الحرب.

وكان من الغريب ألا تقترب جرافات المحافظة حينذاك من "بسطات التبغ والمشروبات الساخنة"، لكن فهم أن هذه البسطات محسوبة على الأفرع الأمنية يجعل من الاستغراب عملية غير منطقية، فالقبضة الأمنية كانت تستوجب وجود المخابرات في كل مكان، وللأمانة فقد كان عناصر المخابرات الذين يحصلون على مثل هذه "المكرمات"، يفرحون بالدخل الإضافي الذي يحققوه بما يساعدهم على الحياة، فقد كانوا يتقاسمون الفقر مع بقية موظفي الدولة رغم أنهم العصا التي أوجع بها نظام الأسد لمدة 53 عامًا ونيف.