20-نوفمبر-2018

هوارد زين

بالتناول الأولي لاسم المؤرخ الأمريكي والمثقف الكوني هوارد زين (24 آب/أغسطس 1922- 27 كانون الأول/يناير 2010) لا مساحة كبرى للتأويل. إذ يمكن الذهاب إلى القول الصريح مباشرة إنه مثل في سيرته، العلمية والنضالية، مثال المفكر والمثقف اليساري الممارس. كما مثل هوارد زين الأكاديمي صاحب الباع في الإنتاج النظري والخطوات الواقعية ضمن الصراع الحقيقي على تغيير العالم وإعادة إنتاجه.

تفاعل هوارد زين مع الصدى المتراكم لتبادلية الخاص والعام في حياته مستفيدًا من التاريخ نضاليًا ومن النضال تأريخيًا

من أبرز ما مثله هوارد زين، ويفتقده كثير من المثقفين ومنتجي المعرفة اليوم، براعته في تجاوز حصون الأكاديميا المؤسسة من داخلها إلى الخارج. كأنه ممسوس بمس إشراقي من الفيض النوراني. مأتى هذا النعت أنه كان منشغلًا بخطين متقاطعين ومتتابعين. حق الجمهور بالمعرفة من ناحية، ونسخة هوارد زين من المعرفة هي نسخة شفافة غير متكلفة ولا مرهقة بأعباء المنهجية والاستعراض النظري بقدر ما هي مهمومة بالاقتراب من الأفهام والتفاعل ضمنها وبينها. أما الخط الثاني، وهو في ناحية غير بعيدة عن الأولى، ساحة الصراع السياسي والاجتماعي في الحيز العام. حتى أن هوارد زين عرف داخل الأكاديميا بعدم ابتعاده عن هذا الاشتغال، إذ كان المحرض الأكبر على بناء التشكيلات الطلابية النقابية وخوض النضالات المطلبية طلابيًا، حيث كان يلقي محاضراته ويتابع أوراق طلبته في نواحي أطلنطا وماساشوستس على مدار 5 عقود وافية.

اقرأ/ي أيضًا: أشباح غيل سكوت - هيرون.. إيقاع مضاد للرحيل

تعرف البعض على هوارد زين من خلال جولاته الشرسة في حركة معارضة حرب كينيدي، ثم نيكسون، في فيتنام. لم تكن فعاليات هوارد زين تضامنية بقدر ما كانت عضوية في منطلقاتها وأدواتها ضد تلك الحرب. إذ جابهها على عتبات صناع القرار في واشنطن، كما في زيارته الكثيرة للأرض المنكوبة بنابالم العم سام ومسحوقه البرتقالي الشهير، الذي لم تغادر أثاره البيئة الفيتنامية، ولا الكمبودية، حتى اليوم. بينما غادر هوارد زين العالم تاركًا خلفه دزينة أو أكثر من المباحث التاريخية الرصينة علميًا والمقروءة شعبيًا، أحد أشهرها A People’s History of the United States.

بذكر تاريخ ناس/شعب الولايات المتحدة، العنوان الذي حورب من عتاة اليمين وسدنة قولبة الثقافة والمعرفة أمريكيًا باستمرار، كما حورب هوارد زين منهم ومن لوبيات إسرائيل الكثيرة. يتاح القول أنه عنوان لا يهم القارئ الأمريكي فحسب، خاصة ضمن حجم وتأثير الولايات المتحدة في زوايا الكوكب مجتمعة. ليتيح أمام القارئ الأمريكي وغير الأمريكي، مساحة 6 قرون من التأريخ النقدي العامر بالاستشهادات وعمليات الربط بين مجمل القضايا التي حركت هذا التاريخ. لا العبودية غائبة ولا مصائر الهنود الحمر، وهو تعبير نزع هوارد زين عنه العنصرية المفترضة بتتبع 25 مليون سنة سابقة على كولومبوس من زحف هذه الجماعات البشرية من آسيا عبر الجسر الآلاسكي.

أيضًا لم تغب كل عملية التأسيس للولايات المتحدة والفواعل في صيرورتها التي يعرفها العالم اليوم. هذا أن هوارد زين المؤرخ صرح بنفسه في تصديره لطبعة الكتاب الأولى أن اهتمامه هو بالتاريخ من مختلف الأعين، لابس الحذاء وكاوي النعل، القن الأبيض والعبد الأسود، النسوي والعرقي، الطبقي والرمزي، اللاهوتي والأخلاقي. هكذا مضى هوارد زين برسم مجمل المقاربات الممكنة وشبه المستحيلة ليوظفها من بين أدواته في نسج الكتابة التأريخية بعبء أخلاقي شديد الوضوح عبر كل سطر فيما كتب، حتى يكاد التشويش يبدي أن إيمانويل كانط عمل على هذا المخطوط لكن في القرن الـ20!

اعتاد هوارد زين على المواجهة بما لديه من معارف ومواقف دون حسابات شخصية، ليكرر اعتبار إسرائيل غلطة كبرى طوال حياته

قليلون جدًا من عرف عنهم أو حسب لهم النجاح الذي لاقاه جهد هوارد زين. هذا أن الشائع بشأن معشر المؤرخين كتابتهم تاريخ متحفي يحتفي بواقعة هنا أو بطل هناك بتكلف أكاديمي، وارتهانات أيدولوجية أحيانًا وتوظيفات سياسية في أحيان أخرى تحت مظلة الإقصاءات المتعمدة والاختلاقات المشتهاة في كثير من الحالات. بينما هم هوارد زين وانشغاله كان بأن تتمكن "العامة" التعلم عن تاريخ ونضال وظروف "العامة" في الزمن المؤسس للحاضر المعاش. لذلك ربما أتى تركيز هوارد زين مكثفًا حدود المبالغة بتوخي أثر كل النضالات والمواجهات والصراعات التي خيضت بداع العدالة وتهذيب السلطة واستحقاقات الصالح العام.

لم يكن هذا الانحياز الموضوعي لدى زين لصالح "الناس"، مفهومًا وفكرة، من بين ما يلقاه معيبًا أو منفرًا، حتى أن سيرته الذاتية حين أصدرها أتت بعنوان " لا مكان للحياد على متن قطار متحرك/ You Can’t Be Neutral on a Moving Train". بالإتيان على ذكر سيرة هوارد زين الذاتية قد يشاع سؤال لماذا كتب ما كتب بهذا الشكل؟.

هوارد زين

على ما يبدو من سيرة هوارد زين أن عاملًا متفردًا لم يكن حكمًا في مساره، إذ قدم كتابه الأشهر بشأن تاريخ ناس الولايات المتحدة بعد سنوات طويلة من انخراطه في جوهر حركة الحقوق المدنية والنضال ضد العنصرية العرقية الذي أفضى به عنوانًا مؤسسًا في ستينات مناهضة الحرب، بما يشبه سيرة مواطنه بيرني ساندرز في ذلك الأوان. لكن هوارد زين أيضًا كان قد تعرض لتجربة خمرت الكثير من أفكاره ومواقفه، سواء لناحية الحرب أو العنصرية، بل والإمبريالية الأمريكية برمتها. هذا أن هوارد زين خدم طيارًا حربيًا مقاتلًا في السموات الأوروبية أثناء الحرب العالمية الثانية.

اقرأ/ي أيضًا: سحر خليفة.. فلسطين المشتهاة

بحسب إجابة كيناغا كماهاتا – تايلور، أستاذ الأفروأمريكانية في جامعة برنستون، ومصدر سيرة هوارد زين الذاتية، على سؤالي: ألا تعتقد أن هوارد زين خاطر كثيرًا حين حرص على التكرار المستمر لمقولته "إسرائيل غلطة كبرى للعالم بحق الفلسطينيين؟". ليقول تايلور أن "دور هوارد زين في الحرب العالمية الثانية خلق ارتدادة عاطفية وأخلاقية وفكرية شاسعة لدى المثقف العملاق الذي صاره بعد ذلك بسنوات". ما من دوره الإسهام في إيضاح كيف كان الخاص يفضي إلى العام والعام يرخي بصداه على الخاص في حياة هوارد زين وحاصل إنتاجه التأريخي إلى جانب اصطفافه السياسي والفكري.

يتضح تفاعل هوارد زين مع الصدى المتراكم لتبادلية الخاص والعام في حياته عبر المدخل المبسط الذي اعتاد كتابة التاريخ عبره. إذ كان حجر الزاوية في تأريخية زين يقوم على جعل الناس العاديين أبطالًا لقصص حقيقية مثبتة. لكن في الوقت عينه توظيف الأحداث العادية والإضاءة على أهميتها بالنسبة لحبكة التاريخ. ما جعل من نظرة هوارد زين للتاريخ والسياسية نظرة غير تقليدية، يمكن القول فيها أنها نظرة زين الفريدة، بما هي ليست نظرة مدرسية كما لم يؤمن زين بالقداسة  التاريخية لشيء على انفراد، إنما بقداسة كل شيء معًا.

لم تتجاوز سيرة هوارد زين الذاتية حدود الـ100 صفحة بكثير، مستكفيًا بالتساؤل ماذا نفعل؟ وكيف؟

من اللطيف بدرجة شاهقة، في عالم الإيغو المتضخم والأنا الكبرى والطموح الصالوني لدى الشخصيات العامة وغير العامة، محاولة التأمل في حجم سيرة هوارد زين. في حين يتوقع أو ينتظر من شخص عاش كل هذا العمر، وكل هذه التجارب من موقع الفاعل، من حروب وانتفاضات ونضالات وتشكيلات حزبية وغير حزبية، وسنوات طويلة من العمر البحثي إضافة إلى التدريس الجامعي، أن يقدم سيرة موسوعية بحجمها. لكن هوارد زين صاحب مفاجأة دائمًا، لتأتي سيرته بما لا يزيد عن الـ100 صفحة بقليل. مسكتفيًا بإيراد خلاصات مكثفة حول نجاحاته وإخفاقاته فيما يتعلق بالشأن العام والتأريخ. علمًا أن أحجام كتبه في التاريخ منهكة للقراءة، وللدقة أنها منهكة لمن حرر نصوصها بلا شك، فمساحة التكثيف وخلو النصوص من أي زوائد تحيل إلى إبهار غير مبتذل.

سنوات غير هينة مرت منذ رحل هوارد زين بشخصه عن العالم، لكن المفارقة أنها سنوات ليست بالضرورة أفضل أو أجمل من السنوات التي نصب نفسه في صلب مجابهة اشتراطاتها. بينما عربيًا وغير عربيًا يقل من يشتغل بروحية شبيهة، في الشأن العام والإنتاج المعرفي على السواء، ليبقى هوارد زين  بتجربته إنسانًا يستدعي الحنين والإفادة، حتى من باب المصادفة، في عالم أمس ما يكون بحاجة التنور العقلاني والإشراق المعرفي في إجابة ما الذي نفعله؟ وكيف نفعل؟   

 

اقرأ/ي أيضًا:

برهان غليون: الرهان دائمًا على الشعب

حوار | القائد الأدنى ماركوس.. أنا الهندي الأحمر