18-سبتمبر-2022
سالي حافظ في مظاهرة في بيروت (فيسبوك)

اقتحمت الشابة اللبنانية سالي حافظ فرعًا لبنك لبنان والمهجر في بيروت، مسلحة بمسدس دمية، وهددت الموظفين بالقتل إذا لم تحصل على وديعتها التي يحجزها المصرف، كما هي حال المصارف اللبنانية جميعًا، التي تحجز ودائع زبائنها وتمنعها عنهم.

ليس ثمة ما تلام عليه سالي حافظ. ففي بلد قامت مصارفه، بالتواطؤ مع مصرفه المركزي بسرقة ودائع اللبنانيين وحجبها عنهم، لم يعد ثمة أمام اللبنانيين سوى الخروج على القانون لتحصيل حقوقهم

لسالي شقيقة مريضة بالسرطان، وعلاجها مكلف وشبه متعذر في بلد يعاني نقصًا في الأدوية والطواقم الطبية، ويكاد يفرغ من كل شيء. وأمام هول ما تعانيه الشقيقة، لم تجد سالي مخرجًا غير محاولة سرقة وديعتها من المصرف تحت تهديد السلاح.

إلى هنا ليس ثمة ما تلام عليه سالي حافظ. ففي بلد قامت مصارفه، بالتواطؤ مع مصرفه المركزي بسرقة ودائع اللبنانيين وحجبها عنهم، لم يعد ثمة أمام اللبنانيين سوى الخروج على القانون لتحصيل حقوقهم. ذلك أنهم في حقيقة الأمر ضحايا القانون نفسه. والحال ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان ومحطات التلفزيون العاملة فيه بمديح الشابة التي أخذت حقها بيدها من الذين سرقوها. فالبلد الذي تحولت سلطاته المالية والسياسية والأمنية إلى عصبة من السارقين والمجرمين، لا تتورع، أي العصبة، عن السرقة العامة والخاصة، أكان المسروق أموالًا وأملاكًا عامة أم خاصة، ولا تتحمل أيًّا من مسؤولياتها حيال تأمين الحد الأدنى الممكن لتمكين المواطنين اللبنانيين من العيش والسعي، هذا البلد بات يحض أبناءه على التحول إلى قطاع طرق ليتمكنوا من تحصيل ما سرق منهم على الأقل.

وضع لبنان المغرق في تدهوره هذا، ينقل المرء من خانة المواطن أو شبه المواطن، إلى خانة قاطع الطريق أو الجندي. وهو إذ ينتقل هذا الانتقال الخطير اجتماعيًا وثقافيًا، لا يجد من يلومه على ما قد يأتيه خلال عملية الانتقال هذه. والحال، لقد حولت السلطة اللبنانية اللبنانيين جميعًا إلى مسروقين. لتندرج كل أفعالهم، العنيفة منها، والتي يخالف بعضها القانون، في خانة الدفاع عن النفس التي تقرها كل القوانين وكل الشرائع.

لكن ردود فعل الناس على حادثة سالي حافظ بدت لي مستهجنة بعض الشيء. معظم اللبنانيين اعتبروا ما قامت به مندرجًا في خانة البطولة، ومعظمهم شبهوها بالرجال، أو رأوا فيها أختًا للرجال، على ما تقول العبارة في مديح النساء المتشبهات بالرجال وهي تبطن مديحًا فائضًا للقوة التي يحب الرجال استخدامها.

والحال، كان يجدر بنا نحن اللبنانيين أن نحزن لاضطرار امرأة معاصرة، كانت حتى الأمس القريب ملتزمة بموقعها كمواطنة في بلد تذوي فيه المواطنية منذ عقود، أن تتصرف تصرفًا يحلو للبعض تشبيهه بالتصرف الرجولي. وهو كذلك في حقيقة الأمر. باعتبار أن الرجال يستسهلون حل المشكلات التي تواجههم بالقوة العارية. وهم مستعدون دائمًا لاستخدام قبضاتهم ومسدساتهم وخناجرهم إذا ما وجدوا أنفسهم في موقع تهديد. فما دفع سالي حافظ إلى التهديد بالقوة والإنذار بالقتل ليس أقل من تراجع في وضعيتها كمواطنة، لم يعد يحميها القانون ولا الأعراف ولا الاتفاقات المبرمة بين شركات وزبائن. لقد وجدت نفسها وحيدة وعاجزة، وهذا يعني أن الاجتماع برمته بات في تابوت الموتى. ذلك أن الاجتماع لا يكون اجتماعًا، ولا يستوي وسيلة للتواصل والتعاقد بين الناس، إلا حين يحفظ للناس المنضوين في بوتقته ما اصطلحوا على اعتباره حقًا من حقوقهم. وحيث إن سالي لم تسرق سوى أموالها في حقيقة الأمر، فإن سارق أموالها في هذه الحال، يصبح مهيمنًا ومحتلًا، ولا يعود جزءًا من الاجتماع ومؤسساته. ولا يمكن التعامل معه بغير القوة العارية، تهديدًا في معظم الأحوال، وقتلًا في بعضها. على ما يكمن في صلب مفهوم الدول الحديثة، باعتبار كل ما هو خارج الحدود عدوًا في الأصل، قد تعقد معه صفقات وتسويات ومعاهدات.

كان يجدر بنا نحن اللبنانيين أمام هذه الحادثة الفاقعة في قدرتها على تبيين انحدار أوضاعنا والبيان عنها، أن نحزن. بل أن نحزن كثيرًا، لأن شخصًا ما اضطر أن يتراجع من مرتبة المواطن إلى مرتبة الجندي أو قاطع الطريق

لكن تحول المواطنين إلى جنود أو شبه جنود لا يعني في أي حال من الأحوال انتصارًا لهم أو ترفيعهم من مقام أدنى إلى آخر أعلى. بل هو انحطاط في وضعياتهم يجعل منهم مقامرين بحيواتهم في كل خطوة يخطونها، وكل مسعى يسعون إليه. وهذا بالضبط ما كان عليه وضع سالي حافظ وهي تحمل المسدس الدمية وتهدد به موظفي المصرف.

كان يجدر بنا نحن اللبنانيين أمام هذه الحادثة الفاقعة في قدرتها على تبيين انحدار أوضاعنا والبيان عنها، أن نحزن. بل أن نحزن كثيرًا، لأن شخصًا ما اضطر أن يتراجع من مرتبة المواطن إلى مرتبة الجندي أو قاطع الطريق. لكن الثقافة الذكورية المتأصلة في نفوسنا، حتى حين نرغب بالتنكر لها ومقارعتها، لا تلبث كل مرة أن تطل برأسها من عمق لاوعينا الجمعي، لتقول لنا إن الطريق أمامنا طويل. وفي حال مثل ما آلت إليه حال اللبنانيين، يبدو أن كل مكاسبنا التي اكتسبناها ونحن نجهد لأن نصبح أفرادًا معاصرين (ذكورًا وإناثًا) يعيشون في كنف دولة ينظم أحوالها القانون، قد ذهبت أدراج الرياح.