07-ديسمبر-2021

عمل فني لـ بلال خبيز بعنوان "المياه باردة في المقهى"

عندما رأيت عمل بلال خبيز "المياه باردة في المقهى" لأول مرة وهو الصادر عن أشكال ألوان عام 2000، كنت غرًا هاجر من عزلة الأهل والطائفة إلى رغد شارع الحمرا. كانت هذه الهجرة تبدو كأنها خلاص في مكان نصنعه وندافع عنه في المقاهي، الحانات، الأرصفة، المسارح وغرفنا التي كنا نستأجرها من المالكين البيروتيين "الأصليين"، نحن الوافدين من الضواحي والأرياف. المكان كان كواحة تنفس بين كانتونات الطوائف المتناحرة.

"المياه باردة في المقهى" لبلال خبيز عبارة عن بطاقات بريدية عليها صورة واحدة ونصوص قصيرة

"المياه باردة في المقهى" عبارة عن بطاقات بريدية عليها صورة واحدة ونصوص قصيرة. كان العمل جديدًا من نوعه حينذاك، وبدا لي كأنه كتله شعر وتجريد غزير الإحالات وغريب الاستنتاجات. هذه البطاقات البريدية حملتها معي إلى لندن بعد حرب تموز، وكنت أنقلها مع كتبي الأخرى من بيت إلى آخر كلما حان وقت الرحيل. ظهرت مؤخرًا بين كتب أخرى كأنها تعود من السكون في وقت تخلى فيه المعنى عني.

اقرأ/ي أيضًا: شذا شرف الدين تعرض لامبالاتنا

يعيدني عمل بلال هذا إلى الدلالة على حياتنا وتذكيرنا بما كنا وما صرنا عليه اليوم. هذه "البوستكاردز" ليست وسيلة مراسلة، بل هي تشبه الآن حجرًا من سور المدينة أو مفتاح بيت قديم. أحسب أن بلال كان يراسلنا عندها بطريقته، وأنا أفتح الآن رزمة البطاقات هذه تبدو لي تلك المراسلة كموجات مغناطيسية، فعل تجل مُحرَّكٍ باللغة، يخفف الرعب من الاختفاء في الراهن ومن انمحاء الماضي وأفوله، ويزيل نوبة القلق المرافق لشعورنا أننا لم نكن ولم نعد. تظهر البطاقات البريدية هذه كفعل عابر للزمن أو لنقل كناقل لوعينا في عدة رحلات. اللمعة التي تصيب النظر في الصورة المبهمة – التي تبدو كظهر امرأة نائمة مطبوعة على ظهر البطاقات– وثمة النصوص في بطنها، تحفز استدعاء الذاكرة للوجوه، الأماكن، أصوات المدينة، أجسادنا ترقص وتشرب، والغوص فيها من خلال لغة الوصف، في موجات مرتدة تدفع الوعي للعودة إلى لحظة الحاضر في لعبة دائرية مكتملة، تشبه دوائر لويز بورجوا الحلزونية الدافئة، وتدعونا للغوص في التذكر مجددًا وتسمح للحواس بالتفلت من ثقل المنطق.

في هذا الاستدعاء المفاهيمي للذاكرة يُنجز هذا العمل مراجعة أنطولوجية للقارئ دون أن ينهيها، بل يتركها تتأرجح بين ضفتي الوقت كـ"بندول نيوتن"، لتصنع وقتًا موازيًا لوقت قراءتها كما للماضي الذي تأتي منه. فالبطاقات هذه تحمل عرى النظر واللمس والشم والسمع وسمات اجتماعية كالحسد والكرم. قراءة كل بطاقة على حدة هو شهادة للبطاقة السابقة. شهادة تؤكد أنها لامست هذه الحواس وحركت فيها الرغبة بقراءة البطاقة التالية، في تتابع عشوائي عبر ثمان عشرة بطاقة. ومن ثم تُعَاود الكرة.

هذا العمل الفني يقع في منزلة بين منازل الفن الكثيرة، ولكن هالته تتوهج في إقامته عند تقاطع الماضي والحاضر والمستقبل معًا، فيه غواية فيزيائية ذكية مشيدة باللغة. بلال في هذا العمل يستثمر في إعادة تعريف مفاهيم العيش في الأماكن من خلال اللغة، ولكنه غير معني بالتلاعب بالمكان بصريًا أو بأستتيك الصور أو تقنيات الطبع. إنما حصرًا بتوليد الشعور بالوقت وبالتالي بالتذكر. غير أن هذا العمل شديد الحساسية، يقاوم سطوة الدراما ويصمد أمام الذاكرة عندما تستعطف النوستالجيا أو التاريخ. وهو بذلك راهن جدًا رغم أنه ينطلق من الزمن ومن أماكن أفلت وأجسام هرمت ونظر لم يعد يُسترق. اللغة التي ترسم الأجساد والوجوه المتكومة في المقاهي والحانات والغرف المستأجرة تبدو كبورتريهات لوسيان فرويد المؤلمة، وجوه وأجساد ترقص في عزلات يجرفها الزمن. ولذلك يمكننا القول هو عمل ما فوق ميديائي، أي أنه غزير في رسم صورنا وصور المكان ولكن دون تلوين أو انطباع، يترك اللغة ترسم الروائح والأماكن واللغو في المقاهي وتصادم النظرات بين المارة والرواد وكرم الأجساد في سحب العيون إلى نظرة الغواية.

هذه "البوستكاردز"، التي قدّمها بلال خبيز، ليست وسيلة مراسلة، بل هي تشبه الآن حجرًا من سور المدينة أو مفتاح بيت قديم

اقرأ/ي أيضًا: رسالة من إيتيل عدنان إلى رشيد قريشي: حنين المستقبل

غير أن أماكن بلال هذه هي أماكن تبدو مهجورة وميتة رغم الرقص والغواية والكلام والضجيج، أماكن تشبه إلى حد ما أماكن بول أوستر، حيث لا يمكن لشيء أن يتضح للعين، كترحال في السكريبتوريم. ولكن لشدة وصفه لتلك الأمكنة كعزلات أحسبه أيضًا كعبور داخلي في عتمة ووميض المكان الآفل، كعبورٍ بسام حجار الليلي في لوحات إدوارد هوبر. فبلال رأى الحمرا "حية ميتة" رغم الصخب والكلام والضجيج والغواية وأحسب أنه بهذا كان يراها رمث هاربين في طوفان ممتد من ماض مدمر إلى مستقبل أكثر دمارًا.

بلال كتب لغة تُصَوِّر تصويرًا مجردًا يتحرك باللغة عبر الملاحظات والانطباعات والخلاصات، تصويرًا يرى الأجساد في مساحة مجردة يعبر عنها باستحضار خطوط إيغون شيلي. كثير من الظلال وكثير من السرد والتحليل والمواقف والخلاصات، تجعل من العمل يبدو كبطاقة مكتوبة بإحساس عال معلقة على باقة بوح مسهب تركت كمتحف دون جدران.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ريم سعد.. رحلة عين مستنيرة

في أعمال سمعان خوام التشكيلية ومنحوتاته