19-يوليو-2020

الفنان بشار اسماعيل

تتقاطع الفيديوهات التي دأب الفنان السوري بشار اسماعيل على إصدارها منذ الخامس عشر من شهر أيار/مايو 2020 مع لوحات مسلسل مرايا، التي واظب الرجل على المشاركة فيها بصحبة النجم الكوميدي ياسر العظمة، في كون كل منها ينتمي لحقل النقد الاجتماعي ـ السياسي نفسه. ذلك النقد الذي يقوم على رفع مفارقات الحياة اليومية إلى مقام الضحك الأسود، حيث ينتصب الضحك شاهدًا على مقدار الخراب الروحي الذي تحدثه السلطة الأسدية في نفوس الناس، التي تدعي أبوتها الأيديولوجية لهم.

تكمن مشكلة بشار اسماعيل الأساسية في رغبته بممارسة السياسة في دولة تحرّم ممارستها حتى على مواليها

تمثل عودة اسماعيل للكوميديا بعد ثماني سنوات من الصمت الطويل موقفًا إنسانيًا نبيلًا، أملاه عليه كمّ الأكاذيب الحكومية التي تصرعلى دفع الناس للعيش عبر اجتراح المعجزات. حيث وزير مالية النظام يحاجج بقدرة الخمسين ألف ليرة، الراتب التقديري لمعظم موظفي القطاع الحكومي، على تأمين متطلبات الأسرة السورية من الحاجات الأساسية، متجاهلًا عن عمد نخفاض قيمة تلك الخمسين إلى مستويات خرافية لا تتعدى قيمة العشرين دولارًا في السوق السوداء.

اقرأ/ي أيضًا: ليس لدى "المختار البيسي" سوى كتابة التقارير

تنهض لوحات اسماعيل الكوميديا على قناعة عميقة لديه، بقدرة تلك اللوحات على تشكيل رأي شعبي ضاغط على صانع القرار، على نحو يجعله يخفف من حدة سلوكه الاستعلائي على محكوميه. فلوحة "الصمود" الكوميدية التي سخر فيها من خطاب المستشارة الرئاسية في دعوتها الناس للصمود في وجهة الآثار المترتبة على قانون "قيصر"، رسالة غير مباشرة لبشار الأسد بأن يتواضع في طلب المستطاع من أجل أن يطاع، فكيف له أن يطالب الناس بالصمود بكل ما يعنيه من تقشف وتقتير، وهم في الأساس في حالة من البؤس الفاقع. كما أنها في الوقت ذاته رسالة مبطنة لرأس النظام وأزلامه بتقاسم أعباء الصمود، فإما أن يصمد الجميع في وجه القلة والحرمان أو أن يسقطوا معًا.

تقوم وجهة نظر اسماعيل في السياسة كما ضمنها في بيانه الانتخابي العجائبي لعضوية مجلس الشعب، على وهم مفاده أن سبب الأزمة في الدولة السورية ذا طابع إداري لا سياسي يتعلق بطبيعة النظام الاستبدادي، مرده عدم وجود الناس الشجعان في مراكز السلطة، القادرين على إيصال مطالب الناس إلى القيادة السياسية، التي لا تعرف عن أوجاع الناس الحقيقية الكثير. فأزمة مجلس الشعب في رأيه تكمن في وصول أناس فاسدين يقدمون مصالحهم الشخصية على المصالح العامة، أو في معظمه وصول نوع من الحزبين المطيعين الذين لا يحسنون سوى التطبيل والتزمير لقرارات القيادة. كما أنها في جزء منها تظهر بضعف التنسيق بين أعضاء مجلس الشعب، سواء على مستوى حث الوزراء على تحقيق مطالب الناس، أو على مستوى مراقبة الأداء الحكومي بكل صرامة.

تكمن مشكلة اسماعيل الأساسية في رغبته بممارسة السياسة في دولة تحرّم ممارستها حتى على مواليها، ذلك أن تمنع عليهم أهم ما في السياسة، الاعتراف للناس بحقهم في استخدام عقولهم على نحو حر ونقدي. الأمر الذي يجعل من كل محاولة نقدية، تتوجه لتفسير الأحداث التي تعصف بحياة الناس المغلوبين على أمرهم، نوع من أنواع النقد الذي يرتقي إلى مصاف التبريرالأحمق، أوعلى نحو أدق الكوميديا السوداء.

قانون قيصر برأي بشار إسماعيل، ليس سوى نسخة قديمة لقانون سبق للقوى الاستعمارية الأوروبية أن فرضته على الشعب السوري منذ ما يقارب المائة عام

في معرض مقاربته لقانون قيصر، يلجأ اسماعيل للتحايل على حقيقة القرار وأسبابه الموجبة، عبر الخروج علينا بمغالطة المصادرة على المقدمة، التي لا تفسر حدثًا ولا تقدم جوابًا شافيًا، بقدر ما تحمل في داخلها نوعًا من الهزل القائم على منطق فاسد، يطيب له أن يفسر الجهد بعد الجهد بالماء. فقانون قيصر برأي الأستاذ ليس سوى نسخة قديمة لقانون استعماري سبق للقوى الاستعمارية الأوروبية أن فرضته على الشعب السوري منذ ما يقارب المائة عام، وأن ظهوره بين فينة وأخرى، بأسماء وأشكال أخرى، لا يتعدى جوهر القوى الإمبريالية التي ما فتئت تتآمر على الشعب المسكين. أما فيما يخص ارتباط القانون بحرب الإبادة التي أعلنها بشار الأسد على جزء من الشعب السوري، والتي تراوحت أدواتها الهمجية من البراميل المتفجرة إلى المسالخ البشرية، فلا وجود لها في ذهن اسماعيل الساخر من العقوبات وأسمائها الطنانة.

اقرأ/ي أيضًا: بيان زهير عبد الكريم.. سُعار المرابع

واحدة من المفارقات الكبرى في حياة اسماعيل أنه لا يغامر بصنع الكوميديا على الوزراء والمدراء الذين لا حول ولا قوة لهم، وإنما ينزلق ليجعل من نفسه هو موضوعًا لها. فكيف له أن يمنعنا من الضحك على تبريره السياسي الذي يدعي فيه أن السبب وراء تحول بشار الأسد لرمز هو انتخابه "ديمقراطيًا"؟ مع أنه يعرف أن العملية الانتخابية في سوريا فاسدة وكوميديا من بابها إلى محرابها. فلناحية أنها فاسدة، فذلك لكونها تقوم على حقيقة مصادرة الإدارة الحرة للناس بفعل بطش المخابرات، أما لناحية أنها كوميدية فذلك لأنها لا تخجل من استعانتها بسجلات الموتى، لتغطية على حقيقة لا مبالاة الناس بالمشاركة بها. يهرول اسماعيل إلى الضحك، فيقع في أحابيله، فبدلًا من أن يضحكنا على الطريقة التي تتحول فيها الأوهام إلى رموز في دولة الاستبداد يدفعنا للضحك من تصوراته، القائلة بتساوي رمزية بشار الأسد من حيث إنه رئيس للجمهورية مع رمزية العلم السوري، كما لو أنه يريد أن يقنعنا حقًا بأن بشار الأسد ما هو إلا بطل قومي من أبطال التحرير أو السياسة، فيما حضوره في الواقع لا يتعدى حضور الدكتاتور الذي يجعل خوف اسماعيل منه مادة للتندر والضحك.

يضيق بشار اسماعيل ذرعًا بمنتقديه من معارضي الأسد الذي يكيلون له الاتهامات جزافًا، تارة عبر ربطه بالتشبيح، وتارة أخرى عبر ربط فنه بالعمالة، دافعهم في ذلك تحول الكوميديا في ظل الاستبداد إلى وسيلة من وسائل التنفيس عند الموالين، العاجزين عن نقد قائدهم وأزلامه المتجبرين. أما من جهة وصف اسماعيل بالتشبيح فإن الرجل أبعد ما يكون عن ذلك، إذ يكفيه فخرًا أنه لم ينجر لمخاطبة معارضيه بالإرهابين الآبقين، الذين يجب رميهم بالنار وفق لثقافة متبنيها من الموالين العصبويين. كما يكفيه أنه خاطبهم ذات يوم بأن يكفوا عن الولدنة والسباب وتبادل التهم، ويقبلوا أن يتقاسموا مسؤولية الخراب الكوني الذي تعيشه سوريا الأسد مناصفة، بدلًا من القسمة غير العادلة التي كانت تلقي باللوم عليهم وحدهم.

تحمل تلك الحجة التي تدعو للتعامل مع كوميديا اسماعيل، كما لوأنها تنفيس أو تصعيد، مقدارًا من الدقة أو الصحة، ذلك أنها توفر لمتلقيها وسيلة نفسية فعّالة لتصريف الغضب والاحتجاج المتراكم في داخلهم، ضد تلك السلطة التي يحبونها من جهة ويكرهونها من الجهة الآخرى. فهي إذ تعفيهم نفسيًا من فعل اختبار مواجهة السلطة المرهوبة الجانب، فإنها وهذا هو الأهم فأنها تسهم إسهامًا كبيرًا في تقديم العزاء لهم، بتحمل عسفها وتسلطها، مادام بالإمكان ترويضها نفسيا عبر الضحك.

إن تحميل كوميديا بشار اسماعيل مهمة تثوير المجتمع الذي تتوجه له فيه الكثير من المبالغة والتجني على دور الكوميديا

إن تحميل كوميديا اسماعيل مهمة تثوير المجتمع الذي تتوجه له فيه الكثير من المبالغة والتجني على دور الكوميديا من حيث إنها نقد فاعل مقنع بالضحك، ذلك أن مهمة تغيير المجتمع لا يتم عبر الضحك، وإنما عبر كفاح الناس بالعودة للسياسة، من حيث كونها الوسيلة الوحيدة لإدارة شؤونهم اليومية على نحو عقلاني.

اقرأ/ي أيضًا: باسم ياخور في برنامج "أكلناها".. الانحدار نحو القبح والتفاهة

أما التعويل على قوة الكوميديا كما لو كانت نوعًا من السحر الأسود الذي يجترح المعجزات فإنه لا يتعدى التغطية على مساوئ السلطات الحاكمة، التي لا يسوؤها خلق الوهم عند مريدها بأن مشاكلهم التي يتخبطون بها، ليست سوى نوع من فساد ذمة الوزراء والمدراء، الذين لا يكفون عن خيانة ثقتها بهم. وفي سبيل ذلك لامانع لديها، من النيل من كرامة الوزراء كما استبدالهم، حتى ولو اقتضى ذلك زيادة في جرعة الضحك الموجه لمريديها، ما دامت سوف تسهم في تهدئة قلق المصير الذي يتهددهم جراء جرهم إلى مزيد من الفقر والنهب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن شكران مرتجى.. العمى في البصيرة والضمير

عابد فهد.. العودة إلى حضن البهيمية