15-يونيو-2018

جان كلود غاوتراند/ فرنسا

"جلنار طفولتي تناثر على حافة الغدير الملتوي. لا رمان في خريف طفولتي. أشواك التوت البري اكتسحت أشجار الرمان على عجل. طفولتي براءة مزيفة. ما ذنب النمل المنكسر في غياب نبي الله سليمان؟ أستحضر جدتي التي كدَّت لفرش أوراق السرخس للرمان الغائب. جلنار كنسه زفيرُ الرياح. عري مسبق. ذكرياتي تُقبّل أرومة السرخس المستعصية النسيان...".

ارتشف بُولُوغِينْ قهوته بشهوة كبيرة بعد انتهائه من كتابة خواطره اليومية. اعتاد على ذلك عقب كل صيحة ديكه في الصباح الباكر. بعد أن بلغ من العمر عتيا، لا ينام إلا أربع ساعات على الأكثر. لا طعم للحياة وهو يعيش وحيدًا، بعد وفاة زوجته قبل خمس سنوات. أما أولاده الستَّة، فكل واحد مشغول بعائلته الصغيرة وهموم الحياة اليومية وهوامشها. كان بولوغين يملك بيتًا متواضعًا في أعالي جبال جرجرة بمنطقة القبائل. ولكن لماذا تذكر طفولته الآن، ودَرْبُ المقبرة أقرب إليه من حبل الوريد؟ طفولة عاشها في عهد القهر الاستعمار الفرنسي، إذ كان الناجي الوحيد في العائلة من وباء الكوليرا. احتضنه اليتم ريعان عمره ليجد نفسه تحت عناية محسني القرية الصامدة لقهر الاحتلال. ذاق الجوع وعايش المآسي، جُنِّدَ رغما عنه إبان حربي الهند الصينية والعالمية الثانية، فسكن الجرح في رجله اليسرى. وعلى الرغم من ذلك كان من أوائل مجاهدي ثورة التحرير الجزائرية 1954-1962. حُرِمَ من امتيازات المجاهدين عقابًا له على معارضته لانحراف الجزائر بعد الاستقلال. عندما استفحل الإرهاب في التسعينيات، كان لزامًا عليه حمل السلاح للدفاع عن قريته من همجية الخونة الملتحين نفاقًا. صمد أمام التهديدات كصمود أشجار الزيتون المحيطة بداره. تذكَّر طفولته لأنه أحس باليتم الثاني بعد رحيل وردته الزكية، الياقوت. عِشرة دامت ستين سنة، بحلاوتها ومرّها، سرائها وضرائها، نورها وظلمتها، ينبوعها وجفافها.

بعد شروق الشمس، قصد بولوغين بستانه الذي اخضرَّ قريبًا من القرية. بستان هاجرتها الأيادي الناعمة، فصار شبه غابة تتربع عليه شتى أنواع الأعشاب الضّارة. تأسف بولوغين على ما آلت إليه الجُنينة، فأولاده اختاروا منذ زمن طويل العمل والعيش بالمدينة بطبيعة شهادتهم العلمية. انتابه شعور غريب وهو يمعن النظر في أرض الأجداد الذين دبُّوا الحياة فيها في الأزمنة الغابرة.

فلتةً، رمق بولوغين طير الهدهد فوق غصن شجرة الرّمان، محدقا في عينيه. فنطق المبعوث السابق لـ(وكالة أنباء سليمان):

- صباح الخير أيها الشيخ الكريم!

ارتعدت فريصتا بولوغين، متسائلًا من أين انبعث الصوت، فلا إنس في بستانه غيره! ولا جان! التفت يمينًا فشِمَالًا، فَبُهِتَ من كون المتكلم طائر بعرف بنيٍّ مرقط!

- طائر يتكلم؟ تعجب بولوغين بعدما تلاشت مخاوفه.

- وما الحرج أيها الشيخ الوقور؟ أنا الهدهدُ، كليمُ النبيّ سليمان عليه السلام.

- سبحان الله. ما خطبك في بستاني هذا؟

- أتعرف أيها الشيخ، كنتُ شاهدا منذ زمن طويل على مسار عائلتك. من جذر أَوَلِكُمْ إلى كرب الوباء إلى شتات الريش.

ابتسم بولوغين من شهادة الهدهد:

- حقا؟ قل لي: ما أصل عائلتي؟

- بالطبع، كل البشر ينحدرون من أناس سفينة نبي الله نوح عليه السلام. أما أول فرد من أجدادك فكان من مملكة سبأ، قبل سفره واستقراره بشمال إفريقيا!

اندهش بولوغين عند سماع ذلك الخبر. 

- من اليَمَنْ؟ شيء عجيب فعلًا! أصلنا عريق على ما يبدو!

- ولكن لدي خبر لن يفرحك عن ماضي عائلتك. كل مائة عام، تُبتلى عائلتك بمحنة عويصة.

 ارتعد بولوغين مرة ثانية وجلس على العشب قبيل شجرة الرمان، غير مكترث بأشعة الشمس، متسائلًا:

- ما سبب هذا النّحس، يا طائر سيدنا سليمان؟ أرحني يا هدهد!

- لأن أجدادك تلطخت أيديهم بدماء يتامى الحروب السابقة للاستيلاء على ممتلكاتهم!

أحسّ بولوغين أن صاعقة  نخرت رأسه، تمنى لو ابتلعته أرض بستانه قبل سماع وصمة العار السائرة في عِرقهم منذ الأزل. ألهذا عاش يتيمًا؟ تجرَّع الشيخ الحقيقة الحامضة.

غادر طائر الهدهد غصن الرّمانة وحلق بعيدًا عن "بستانيّ الجحيم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

هلام الكهف

بورخيس في المتنبي