09-سبتمبر-2022
بحث مستمر عن استراتيجيات للتعامل مع أزمة شح القمح بعد حرب أوكرانيا (Getty)

بحث مستمر عن استراتيجيات للتعامل مع أزمة شح القمح بعد حرب أوكرانيا (Getty)

شهدت القارة الأفريقية وتحديدًا القرن الأفريقي بداية هذا العام، ثالث موجة جفاف حادة خلال السنوات العشر الأخيرة، كما عانَت المنطقة من جائحة كوفيد-19، ومن انتشار الجَراد الصحراوي، ما تسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية. وأعربت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو" (FAO) عن خشيتها من حدوث كارثة إنسانية، ما لم يتم توسيع نطاق المُساعدات للمنطقة. وأشار المُنَسِّق الإقليمي الفَرعي للمنظمة ديفيد فيري إلى أن الوضع ازداد سوءًا منذ بداية العام، فنسبة هطول الأمطار كانت أقل من المتوسط في أجزاء كبيرة من القرن الأفريقي خلال الموسم الرئيسي للأمطار، والذي يستمر من آذار/مارس إلى أيار/مايو، ما جعل المنطقة في مواجهة أسوأ موجة جفاف لها منذ أربعين عامًا.

حذر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة من احتمال ارتفاع عدد الجياع في القرن الأفريقي من 15 مليون إلى 20 مليون هذا العام

في نفس السياق، حذر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة من احتمال ارتفاع عدد الجياع في القرن الأفريقي من 15 مليون إلى 20 مليون هذا العام، كما أنه قد لا يتمكن أكثر من 40 مليون شخص في غرب ووسط أفريقيا من تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية.

بالإضافة لعامل الجفاف، فقد ألقت الحرب الروسية في أوكرانيا من ظلالها وتداعياتها الخطيرة على المنطقة، فالحرب قوضت التوازن الغذائي العالمي، وهو ما عرض حياة الملايين  لخطر الجوع بسبب نقص الغذاء، وأثار المخاوف من حدوث أكبر أزمة غذائية يمكن أن تؤثر على بعض البلدان الأفريقية. وفاقم من الأزمة أن أوكرانيا وروسيا تعتبران مصدرًا رئيسيًا لتزويد دول القارة بالقمح والذرة والشعير. وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة، استوردت الدول الأفريقية ما بين عامي 2018 و2020 ما نسبته 44% من احتياجاتها من روسيا وأوكرانيا، وبفعل الحرب ارتبكت أسواق القمح ما رفع أسعاره بنحو 45% نتيجة تعطل الإمدادات، وفقًا لتقارير صادرة عن بنك التنمية الأفريقي.

من جانبه، أفاد تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو" (FAO) أن مؤشر أسعار سلة السلع الغذائية سجل أعلى ارتفاع له في آذار/مارس الماضي، فيما حذر برنامج الغذاء العالمي من أنه إذا استمرت الحرب في أوكرانيا، فإن أكثر من 170 مليون شخص في أفريقيا سيعانون نقصًا حادًا في الغذاء. وخلال لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران/يونيو الماضي في مدينة ستوشي جنوب روسيا، أوضح رئيس الاتحاد الأفريقي الرئيس السنغالي ماكي سال بأن على بوتين أن يدرك بأن الدول الأفريقية "ضحية للنزاع في أوكرانيا"، مشيرًا إلى تنامي الأضرار الاقتصادية التي لحقت بالبلدان الإفريقية من جراء هذه الحرب.

وشكل منع تصدير القمح مصدر قلق خاص للزعماء الأفارقة، حيث يأتي ما يقارب من 30% من الإنتاج العالمي من البلدين المتحاربين، وتستورد بعض البلدان الأفريقية ما يصل إلى 80% من احتياجاتها للحبوب من هذين البلدين. وفي ضوء هذه التداعيات السلبية، والمخاوف حول مستقبل الأمن الغذائي في أفريقيا، كثفت الحكومات الأفريقية من مبادراتها للتعامل مع الأزمة الحالية، وركزت جهدها على تشجيع إنتاج الخبز المصنوع من الحبوب المحلية، بالإضافة لحملات توعية للمستهلكين حول عادات الأكل الجديدة، والعمل على تجميد الأسعار.

فقد لجأت جمهورية أفريقيا الوسطى إلى تجميد الأسعار بعد موجة التضخم المتسارع، حيث ارتفعت أسعار الحبوب وبلغت الزيادة 67% لدقيق القمح، و70% للزيوت النباتية. أما ساحل العاج فقد اختارت الحكومة وضع حد أقصى لسعر الرغيف بين 150 و200 فرنك أفريقي (22 و30 سنت) حسب الوزن، ولتعوض هذا النقص الذي يعاني منه الخبازون خصصت الحكومة إعانة قدرها 6,4 مليار فرنك أفريقي،  وهو ما يعادل حوالي 10 ملايين يورو، كما دعت الحكومة إلى استعمال  طحين الكسافا في صناعة الرغيف الفرنسي، في بلد يعتبر الخبز غداءً مركزيًا. وتنتج ساحل العاج 6,4 مليون طن من الكسافا سنويًا.

وتحدث رئيس اتحاد الخبازين في ساحل العاج عن إنشاء كونفدرالية للمخابز تكون قادرة على تعزيز دمج المواد الغذائية المحلية في صناعة الخبز بنسبة تصل إلى 15%، ترافقه حملة توعية لإقناع الخبازين والمستهلكين باللجوء إلى هذه البدائل الجديدة. ويضيف رئيس اتحاد الخبازين قائلًا "إنها مسألة تفكير على المدى الطويل بأمننا الغذائي، إنها مسألة تفكير في الكيفية التي ستضمن بها ساحل العاج أنها ستكون أقل اعتمادًا على السوق العالمية".

من جهته يؤكد الرئيس العاجي الحسن واتارا على هذا التوجه، حيث لم يُخف طموحه بإعادة تقييم الاعتماد على السوق الخارجية لشراء القمح، خلال افتتاحه منتدى الرؤساء التنفيذيين في أفريقيا في حزيران/يونيو الماضي، قائلًا "مثل هذا الوضع التضخمي يدفع الحكومات والشركات إلى إعادة تقييم اعتمادها على الشبكات الدولية، إنه في الحقيقة تشكيك في العولمة، ومفهوم التجارة العالمية، وقد زاد هذا الوضع حدة بسبب الأزمة في أوكرانيا"، مستشهدًا بشكل خاص بمثال الهند، فقد قرر رئيس وزرائها ناريندرا مودي حظر صادرات القمح بالكامل في منتصف أيار/مايو الماضي.

الطرح الذي قدمه الرئيس واتارا يحتم أن يكون هناك تغيرًا لتعزيز الاعتماد على البدائل الجديدة الأقل انفتاحًا على العادات الغذائية السابقة، وهنا لم تنتظر جمهورية التوغو بأن تقرر الحرب في أوكرانيا مصير أمنها الغذائي، ففي نهاية العام 2019 أخذت قرارًا بدمج 15% من الحبوب المحلية في إعداد الخبز. وتُعد المحاصيل المحلية أقل عرضة لاضطرابات التجارة، والتضخم العالمي، وبالتالي تقدم قدرًا من الحماية من أسعار الغذاء في السوق العالمية التي ما تزال قريبة من المستويات القياسية.

ولجأت كينيا إلى استبدال القمح بوصفات أخرى يدخل في مكوناتها دقيق الأرز والذرة والعدس، بينما يستخدم في صناعة الخبز الفول الصويا، والذرة الرفيعة، حيث تستورد كينيا نحو 44% من القمح من أوكرانيا، وساهم صعود الأسعار في رفع معدلات التضخم في البلاد إلى 6,5% خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي.

اما جمهورية الكونغو الديمقراطية فقد اعتمدت برنامجًا لدعم إنتاج دقيق الكسافا لتصنيع الخبز والمعجنات، وغرد وزير الصناعة جوليان بالوكو على "تويتر" وكتب إن "ذلك ربما قد يساعد الكونغو على الحد من اعتمادها على القمح المستورد، والذي يكلف البلاد نحو 87 مليون دولار سنويًا". وهو ما ذهب إليه نائب رئيس ديوان الرئيس للشؤون الاقتصادية أندريه وامسو قائلًا "إذا تم تصنيع معظم هذه المنتجات محليًا، فسنكون أقل تأثرًا بالأزمة الأوكرانية".

من جهة أخرى وبحثًا عن حلول لتجاوز هذه الأزمة، لجأت بعض الدول إلى الاعتماد على البنك الدولي، ففي مصر البالغ تعداد سكانها 102 مليون نسمة، مول البنك الدولي قرضًا تنمويًا بقيمة 500 مليون دولار لتعزيز أمنها الغذائي للفترة القادمة، حيث تعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وهي تعتمد على روسيا وأوكرانيا للحصول على 85% من إمداداتها، لكن مع تداعيات الحرب في أوكرانيا، وتعثر عمليات الاستيراد، برز اتجاه داخل الحكومة المصرية لدراسة إدخال "البطاطا" ضمن مكونات إنتاج الخبز المدعم بنسب من 10% إلى 20% لتوفير نحو مليون طن من القمح، لتخفيف الضغط على استيراد القمح، وهو خيار يفضله الخبازون كحل أكثر استدامة.

ينصح كبير الاقتصاديين في مكتب أفريقيا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ريموند جيلبين الدول الأفريقية، قائلًا إذا "كانت أفريقيا تريد أن تستورد أقل، فعليها أن تزيد طاقاتها الإنتاجية في داخل بلدانها، وللقيام بذلك يجب عليها  مضاعفة استخدام الأسمدة، وتسهيل التجارة بين البلدان الأفريقية في المنتجات الغذائية". ويؤكد جيلبين أن "زيادة الإنتاج المحلي لا تعني أن على إفريقيا عزل نفسها عن الأسواق العالمية"، ويخلص إلى أنه "يجب على الدول الأفريقية أن تسعى بدلًا من ذلك إلى إعادة تموضع نفسها في الأسواق العالمية، يجب أن تظل قيمة مواردها الطبيعية في القارة، وأن تفيد المنتجين الأفارقة".

بالإضافة لعامل الجفاف، فقد ألقت الحرب الروسية في أوكرانيا من ظلالها وتداعياتها الخطيرة على المنطقة

أما المنسق الإقليمي في المكتب الإقليمي الفرعي لغرب ووسط أفريقيا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، نجويا تيكوم، فيذهب من خلال مقال بجريدة "لوموند" الفرنسية إلى التأكيد على أن مصير أفريقيا فيما يتعلق بمسألة الأمن الغذائي ليس على المحك في أزمة استيراد القمح الحالية، موضحًا بأن القارة لا ينبغي أن تعتمد على السوق العالمية بل أن تعتمد على سياسة جديدة، تتيح لها أن تزرع حبوبها الخاصة بها. وبحسب تيكوم يمثل الدخن، الذرة الرفيعة، الفونيو، الكسافا، والذرة والشعير، قواعد غذائية في العديد من البلدان جنوب الصحراء، ويتم إهمالها أحيانًا بسبب المنتجات المستوردة التي تعتبر أفضل، وهو ما يجب اعتباره تأثرًا بالعولمة، ولكنه أيضًا حسب وصفه شكل من أشكال اغتراب ما بعد الاستعمار.