26-يونيو-2016

وزيرة اسكتلندا الأولى بين مناصريها في حملة رفض الخروج من الاتحاد الأوروبي (Getty)

لا تزال بريطانيا العظمى التي كانت في زمن مضى مملكة لا تغيب عنها الشمس، تعيش ليس في خيال الكثيرين من أبنائها فقط، ولكن أمام عيونهم وفي عقولهم وممارساتهم اليوميّة، وهذا برأيي كان أحد المحفّزات الرئيسيّة لنجاح الاستفتاء على خروجها من الاتّحاد الأوروبّي، وسأحاول في مقالتي هذه وضع بعض ملاحظاتي عن الاستفتاء وأسبابه ونتائجه ومفارقاته كعربي يعيش في اسكتلندا منذ أكثر من عقدٍ ونصف، بعيدًا عن التحليلات الاقتصاديّة والسياسيّة الجافّة.

لا تزال بريطانيا العظمى التي كانت في زمن مضى مملكة لا تغيب عنها الشمس، تعيش في خيال الكثيرين من أبنائها

بدأت القصّة مع صعود نجم حزب المحافظين وحزب الاستقلال البريطاني خلال الأعوام الماضية واضطّرار ديفيد كاميرون لتضمين تعهّد بالدعوة إلى الاستفتاء في برنامج حزبه الانتخابي للانتخابات البرلمانيّة الأخيرة تماشيًا مع رغبة وضغوط رؤوس كبيرة في الحزب مثل بوريس جونسون، عمدة لندن السابق وأحد صقور الحزب. جونسون هذا ينحدر من أصول تركيّة، وهو أكثر المرشّحين حظًّا لتولّي منصب رئاسة الحزب والحكومة بعد استقالة كاميرون التي وعد أن يقدّمها خلال مؤتمر الحزب القادم في تشرين الأوّل/أكتوبر، وذلك بناءً على نتيجة الاستفتاء.

اقرأ/ي أيضًا: الثورة السورية في البازار الروسي الأمريكي

تضاربت توقّعات مراكز البحث عن النتيجة إلى أن استقرّت لصالح الخروج مع اقتراب يوم الاستفتاء، وتوقّع البعض أن يؤّدي مقتل النائبة الإنجليزيّة المؤيّدة للبقاء قبل حوالي أسبوع إلى تغيير دراماتيكي بالنتيجة نظرًا لحالة التعاطف معها التي اجتاحت البلاد على إثرها، وفي كثير من الأحيان ظهرت نتائج مخالفة للتوقّعات بنسبة كبرى ومفاجئة في عدد كبير من الدوائر.

عدد الذين يحقّ لهم التصويت 46,501,241، شارك منهم 33,551,983، أي ما يعادل 72,2% من العدد الإجمالي، وكانت النتيجة لصالح الانسحاب من الاتّحاد بنسبة 51,9%، بعد أن تمّ تقسيم البلاد إلى 382 دائرة لعدّ الأصوات وإعلان النتائج تباعًا، والتي كانت في معظمها لصالح الخروج، ولكن تم اعتماد حساب الأصوات بشكل فردي.

أغلقت الصناديق في تمام الساعة العاشرة ليلًا من يوم الخميس 23/6/2016، ليبدأ احتساب الأصوات مباشرة على التلفزيون، وللمفارقة أوّل دائرة تمّ حسابها هي دائرة جبل طارق الموجودة على الأراضي الإسبانيّة والتي تتبع إلى بريطانيا، وكانت نتيجتها لصالح البقاء في الاتّحاد، بعد ذلك توالت نتائج الدوائر وتناوب طرفا التصويت على احتلال المركز المتقدّم بالنتيجة حتّى الساعة الثالثة والنصف صباحًا، حيث بدا أنّ معسكر الخروج يتقدّم بفارق حوالي نصف مليون صوت، وكان بقي وقتها حوالي خمسة ملايين صوت لم تحسب بعد، ورغم ذلك أعلنت محطّة البي بي سي رسميًّا فوز المصوّتين بالخروج.

في إنجلترا كانت الغلبة للخروج بنسبة 53,4%، وكذلك في ويلز بنسبة 52,5%، بينما في شمال أيرلندا كانت الغلبة للمصوّتين بالبقاء بنسبة 55,8%، في حين وصلت نسبة المصوّتين بالبقاء أوجها في اسكتلندا إلى 62%، حيث جاءت نتائج كلّ الدوائر هناك لصالح البقاء.

معظم المدن البريطانية الكبيرة صوّتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي بسبب حالة الانفتاح التي تعيشها

بشكل عام معظم المدن الكبيرة صوّتت للبقاء على الأغلب بسبب حالة الانفتاح على الآخرين التي تعيشها، مع استثناء بيرمنغهام رغم وجود عدد كبير من المهاجرين فيها، بينما الأرياف والمدن الأصغر المنعزلة وغير المنفتحة على المهاجرين صوّتت للخروج، كذلك هذه المناطق يعيش فيها نسبة كبيرة من المتقاعدين، حيث يفوق عدد السكّان البريطانيّين المتقدّمين في العمر عدد الشباب، وقد يكون من أسباب ذلك العنصريّة والانعزال والأنانيّة والاعتقاد بالفوقيّة، مع التنويه إلى وجود نتائج لا تخضع للمعايير المسبقة، كمدينتي الجامعتين العريقتين كامبريدج وأكسفورد واللتين تعتبران من مناطق سكن النخبة والأغنياء صوّتتا للبقاء، بينما مدينة صغيرة مثل شيفيلد والتي تعيش فيها جالية كبيرة من المهاجرين اليمنيّين صوّتت للخروج، كما أنّ ويلز مثلًا هي أكثر دولة تحصل على مساعدات من الاتّحاد الأوروبّي صوّتت للخروج أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. وقائع عبثية لنهايات كارثية

أحد أسباب ظهور نتائج مخالفة للتوقّعات المنطقيّة في عمليّات التصويت هوالاعتقاد المطلق بحريّة الاختيار، صحيح أنّ التصويت حر ولا أحد يجبر أحدًا على رأي معيّن، ولكن قلّة قليلة هم الذين يأخذون مواقف بناء على قناعاتهم، بينما يجري دفع الأغلبيّة باتّجاه موقف معيّن ترغبه الحكومات أو الشركات الكبيرة المستفيدة عن طريق الضخّ الإعلامي والترهيب والترغيب، "غسيل دماغ" بالمعنى الكامل للكلمة، وهذا ما حصل في هذا الاستفتاء، وأيضًا حصل في استفتاء الاسكتلنديّين على استقلال بلادهم الذي فشل قبل حوالي العامين.

من المفارقات المؤلمة أنّ بعض اللاجئين السابقين الحاصلين الآن على جنسيّات بريطانيّة، ويحقّ لهم التصويت، أعطوا أصواتهم لصالح الانسحاب بحجّة أنّ البلاد امتلأت باللاجئين مؤخّرًا، وكذلك فعل بعض المهاجرين من دول أخرى بحجّة وضع حدّ للعمالة القادمة من دول شرق أوروبّا.

من المفارقات أنّ بريطانيا كانت أكثر دولة مدلّلة بالاتّحاد الأوروبّي ومحميّة باستثناءات وامتيازات كثيرة ومع ذلك لم يعجبها هذا، الإنجليز تحديدًا ما زالوا يعيشون على ذكرى بريطانيا العظمى، ويحلمون باستعادة مجد الأيّام الخوالي وإغلاق بلادهم على الأوروبيّين الآخرين الطامعين بثرواتهم كما يعتقدون، مع أنّهم يفعلون العكس، ففي إسبانيا وحدها يعيش حوالي أربعة ملايين إنجليزي.

بريطانيا كانت أكثر دولة مدلّلة في الاتّحاد الأوروبّي ومحميّة باستثناءات وامتيازات كثيرة ومع ذلك لم يعجبها هذا

تداعيات الخروج وآثاره على اقتصاد البلد والأفراد ستظهر تباعًا، وأوّلها كان الهبوط الحاد في قيمة الجنيه الإسترليني، كما أنّ بورصة لندن خسرت يوم أمس مبلغ 125 مليار جنيه، وهذا المبلغ يعادل ما دفعته بريطانيا للاتّحاد الأوروبّي خلال الخمس عشرة سنة الماضية، كما أنّ بعض الشركات والمؤسّسات الماليّة بدأت تخطّط لنقل مقرّاتها وموظّفيها من لندن إلى عواصم أوروبّية أخرى، في حين كانت ألمانيا وفرنسا قد أبلغتا بريطانيا رسميًّا أنّها إذا قرّرت الخروج من الاتّحاد فلا مجال لعودتها مرّة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: الشذوذ والتطرف.. تبريرات إعلام الغرب واتهاماته

من النتائج المتوقّعة أيضًا تفكّك البلاد، فقد ظهرت نيكولا ستيرجن رئيسة الحزب الوطني الاسكتلندي والحكومة الاسكتلندية في مؤتمر صحفي على الإعلام أمس، وبدا خلفها أعلام اسكتلندا والاتّحاد الأوروبّي مع غياب واضح ومقصود للعلم البريطاني، وقالت بلهجة مصمّمة أنّها تعتبر اسكتلندا جزءًا من الاتّحاد، وطالبت حكومة لندن بالمشاركة في اتّخاذ أي قرار يحدّد شكل علاقة بريطانيا بالاتّحاد بعد الخروج خلال العامين القادمين اللذين حُدّدا لاستكمال إجراءات الانسحاب، وأضافت ستيرجن أنّه خلال تلك المدّة سيعمل البرلمان الاسكتلندي جاهدًا على تنظيم استفتاء جديد لاستقلال اسكتلندا، وفي حال النجاح ستعود اسكتلندا للانضمام إلى الاتّحاد، كما وردت أنباء أمس أنّ حزب الشين فين الإيرلندي الشمالي سيعمل على المطالبة بإجراء استفتاء على خروج شمال أيرلندا من بريطانيا، وعودتها إلى حضن أيرلندا.

الأيّام القادمة ستشهد جدلًا كبيرًا في المجتمع البريطاني حول صوابيّة قرار الخروج من عدمه، وقد بدأت إرهاصات هذا الجدل بالظهور على العلن في الإعلام البريطاني، مثلًا هيئة الانتخابات تلقّت العديد من الطلّبات من مصوّتين يرغبون بتغيير تصويتهم الذين صرّح بعضهم أنّهم صوّتوا للخروج كنوع من الاحتجاج، ولم يكونوا يعتقدون أنّ ذلك سيحصل فعلًا، وقد ظهرت عرائض موقّعة من حوالي مليوني شخص حتّى الآن تطالب بتصويت جديد، ولكن أطرف ما في الموضوع هو ظهور عريضة إلكترونيّة للتوقيع سوف تُقدّم إلى عمدة لندن صديق خان تطالبه فيها بإعلان استقلال لندن عن بريطانيا وانضمامها إلى الاتّحاد الأوروبّي، وقد جاء فيها هذا النداء: "أيّها العمدة صديق خان، ألا تفضّل أن تنادى بأيّها الرئيس صديق خان"!!

اقرأ/ي أيضًا:

حسن رابح.. الرقص في الريح

الإعلانات مرة أخرى