13-أكتوبر-2015

قحطان الأمين/ العراق

* إلى ذكرى منوّر رحيّل

صديقي العزيز.. في مثل هذا اليوم غرقتُ، صرتُ مكتفيًا بذاتي وعاطلًا عن العمل. ما أفعله الآن مجرد إعلان موتي على نحو نهائي. أكتب إليك كي أتسلى، الغرقى يتسلون بسرد الحكايات كما لو أنهم يحتجون على نقص التبغ في أيديهم. هذه السيجارة التي أشعلها الآن تشبه السيجارة التي سبق وأن أشعلتها قبل رحيلي في القارب من ميناء زوارة الغافلة عن آلام موتاها.

زوارة آخر موانئ الاتجار بالبشر الذين يودعون حيواتهم في صناديق معلبة على أمل استعادتها أقل طزاجة. زوارة ليست وادعة، تنام وسوطها في يدها، تكدس أجساد زائريها وتعيدهم في توابيت مملحة. قطعة مسروقة من شواطئ المتوسط هي. لو قدّر لكلمة أن تصف العاملين على إدارة مينائها الغادر لاكتفيت بالقذارة. كل ما في زوارة قذر. لا يمكن لشخص مثل المهرب بابوسا، ولا إخوته الأربعين أن يرتدوا القفازات البيضاء إلا إذا كانوا في طريقهم إلى المذبح البشري. يرتدي بابوسا وعصابته القفازات كل يوم كي يصيروا بحارة. يزينون رؤوسهم الصغيرة بشرائط ملونة كي يظلوا ماكانوا عليه؛ نهّاب حياة. هي القفازات ذاتها التي تميز قاطع طريق عن آخر. فلا يمكن لرجل مثل بابوسا أن يصبح بحارًا لمجرد ارتدائه القميص، ما من رجل عصابة إلا ويرتدي قميصًا حتى يستطيع أن يخزن رائحة ضحاياه فيه. مساكين أصحاب القمصان البيضاء لا يعرفون أن للقذارة لونًا.

عالق تحت نجوم زوارة من ثلاثة أيام، أحدق في  مشهد موتي وأكذبه. البارحة رأيت شهابًا يهوي، قلت لنفسي وما شأني فأنا لست إلا مسافر؟ لم قد يعبأ مسافر مثلي بذرة كونية تافهة قد تنبئ بموته؟

قلت لنفسي كي أخادع خوفها: هذا شهاب موت لأحد سواي. على شهاب موتي أن يخجل قليلًا فما زال في جعبتي تبغ كثير، والفصل الأخير من رواية لم أفرغ من قراءتها، وأغاني فيروز المكدسة في جيوب قميصي، ورغبات مؤجلة إلى ما بعد الرحيل الكبير. 

في الليل سمعت صوت كلب ينبح بحرقة، قلت: خُلقت الكلاب لكي تنبح فما شأني؟ أنا الذي يصيبه صوت كلب في مقتل، كم كنت مخطئًا في عدم الإصغاء إلى ندائه الحميم؛ أن لا تعبر البحر يا كارهي. في الصباح رأيت غرابًا على كتف بابوسا يهتف باسمي، فنهضت مذعورًا مدركًا أن قدري السيء أضحى على بعد بوصلة. ومع ذلك عبرتُ، من دون إنصات لصوت الموت المتربص بي على حافة الموج.

في يوم غرقي، يشعلني الشوق إلى أمكنة ثقيلة، راسخة، ممتزجة برائحة الغبار التي كانت تحدثه الزوابع الصغيرة في أرض مخيم خان الشيح الترابية. يشعلني الشوق إلى تلك السحابة وقد  صعدتُ معها ولدًا صغيرًا يحلم بتسلق سحابة من غبار ليصير نجمًا. كانت أمي تحذرني من رياح الشمال عندما كنت أقف في انتظارها لتحيلني إلى جرس سماوي صغير يغني مواجعه. احذر الموسيقى يا بني! احذر موتك على سلمها.  

يشعلني الشوق إلى الأمكنة، ويشعلني الخوف منها، فهناك أمكنة لا تصلح لأن تصطاد ظلك عليها. مدن لا تعترف بأمومتها لك. كان لي في سوريا رحمان، أمي والمخيم، كل أمهات المخيم أمي إذا ما مال قلبي عليّ. كم أنا ضائع فيكِ فلا أم لي هنا يا طبرق. سأغادرك عند أول موجة تهب علي. وغادرتك، لم أحتمل فكرة الموت فيك بلا نائحات. أريد بكاءك بعدد عيون الأمهات في خان الشيح. أرى جسدي ملفوفًا بملحك. أراني ممددًا على الرمل.

حين كنت في سورية، كنت مسحورًا بالمساحة التي سيشغلها جسدي يومًا من التراب بعد موتي. وبالقطعة الرخامية التي ستدل على حصتي من جسد المقبرة. فقد يمر بي أحدهم ليقول منوّر رحيّل يقيم هنا. الطول 170 سم. حصته من التراب كاملة. طيلة العام الماضي وأنا أحاول أن أطرد فكرة أن يصيني الموت قبل أوانه. ذلك أني كنت مصممًا على شراء كرسي من القش يحمل جسدي في السبعين من عمري، كرسي مقشش بألوان زاهية يمنحني حرية الحركة في اللحاق بمواعيد الظلال التي ستلقيها جدران بيتي عليّ.

في سورية كنت أحسب أن الموت سيتسلل إليّ على شكل قذيفة طائشة، أو قد تأتي من بندقية جندي لم ينم جيدًا. لا أعرف لمَ لَمْ أتصور أنه سيأتي على شكل جبال من الموج، وأن الترنيمة التي حفظتها من أمي في صغري ستكون عزائي الوحيد في هذا العالم. ما من مرارة مثل مرارة التفجع أمام الموت الذي لا يمكن هزيمته: "من أين جاءك الموت يا حبيبي؟/ أجاءك من النافذة؟ 
ويحي قلبي لقد أغلقنا النافذة منذ قليل/ من أين جاءك الموت يا حبيبي؟".

طيلة عامين وأنا أنصت لندائك الحزين يا أمي "من أين جاءك الموت يا حبيبي؟"، فقط لأقول إنه جاءني من جهة البحر، من جهة الرصاص الذي أمطرنا به بابوسا اللعين.
 
طيلة عامين وأنا أرحل مع النجوم إلى خان الشيح، لأرى أمي تعد لي يومي وتبكي. فأقول لها: ابكي قدر ما ترغبين، فالبكاء يجعل العالم أقل قسوة. في الزاوية، على مقربة من الجدار، فوق الكرسي، تحت ظل السماء، أبي يبكي، ويشتمّني في قمصان الآخرين. فأقول له: ابك على سبيل التسلية، فجسدك لا يحتمل. ابك لتنج. عش قدر ما تستطيع. ودخن عني وعنك. اشتر تبغًا يكفي لإحراق العالم، كي أعرف كم تحبني!

أنا الغريق الذي صدّق أغاني الربيع بأن لي قلب َشجرة، وصدق أن قلبها لا يموت.. فمات. كان هناك متسع من الوقت لأنجو، لو أخرّتُ رحلتي إلى الشمال قليلًا. لكنها مشيئة الأغاني.

في الحادي عشر من شهر تشرين الأول، في آخر خريفٍ من عمري، غرقتُ. من وقتها لم أعد ذلك الولد الذي كنتهُ. لم تعد لي ضحكته. كل ما بقي مني ظلٌّ يمشي على حواف جدران العائلة، ويتجوّل بين شوارع المخيم، ليستأنس بدخان سجائر الأب الجالس على كرسيه في الطريق.

اقرأ/ي للكاتب:

السحر وامتلاك العالم