02-يناير-2017

صارت برلين عاصمة فعلية للسوريين تسمح بتجمعهم وتقبلهم وانخراطهم (سين غالوب/Getty)

لم تكن برلين حاضرة في مخيلة السوريين جغرافيًا كخيار للعيش قبل الحرب، كما لم تكن كل هذه الحرب أيضًا موجودة وكل هذا التهجير الذي ذهب بهم إلى عواصم العالم ومدنه المختلفة.

قبل أعوام ومع بداية الرحيل الكبير للسوريين نحو أوروبا، لجأ إلى ألمانيا قرابة مليون سوري توزعوا على مدن ومقاطعات ألمانية، وبالرغم من صعوبة الإجراءات الإدارية وصعوبة إيجاد سكن، إلاّ أن برلين حظيت بالنسبة الأكبر والتي قاربت 200 ألف سوري، فهي الوجهة الأولى للقادمين السوريين الجدد، باعتبار أنها ليست المركز السياسي لألمانيا فحسب وإنما هي واحدة من أعرق مناطق الاقتصاد الديناميكية في أوروبا، بوجود بنية تحتية متطورة وأكثر من مليونيّ إنسان يتحدثون أربع لغات وأكثر تعتبر اللغة العربية واحدة منها.

بعد الحرب، لجأ إلى ألمانيا قرابة مليون سوري توزعوا على مدن ومقاطعات مختلفة، أبرزها برلين التي حظيت بالنسبة الأكبر

في شارع الشمس أو شارع العرب كما يحلو لسكان برلين نعته، ليس أكثر ما يميزه هي بساطة الشكل التي تدفعك لتمييزه عن بقية شوارع برلين ونعته بالشارع الفقير، بل أيضًا طابعه الشرقي البحت، حيث تنتشر المحلات العربية على طول الشارع، الذي شهد انتعاشًا اقتصاديًا مع قدوم السوريين واستثمارهم بقطاعات اقتصادية مختلفة من خلال افتتاح المقاهي والمطاعم ومحال المهن الصغيرة كالحلاقة وتصريف العملات وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا: حي العرب البرليني... وجهة الباحثين عن سوريا

هذا ما جعل من الشارع مكان السوريين المفضل بعد أن حوله وجودهم الكثيف فيه إلى واحد من شوارع دمشق، فأصبح مقصدًا لزائري برلين من السوريين المقيمين في مدن أوروبية أخرى، فالحياة الاقتصادية في هذه المدينة تبدو أكثر ملائمةً للقادمين الجدد على عكس مدن أخرى في ألمانيا وأوروبا بشكل عام.

"كل شيء مختلف هنا" يقول محمد طالب جامعي، ويكمل: "في برلين لا تشعر بوحشة الاغتراب بعد أن ازدادت أعداد السوريين وازداد نشاطهم الاجتماعي والثقافي، فبرلين أتاحت لنا فرصة البداية الجديدة".

هذا التواجد السوري الكثيف في العاصمة لم يتوقف على النشاط الاقتصادي فقط، ثقافيًا كان السوريون موجودين أيضًا من خلال نشاطات وفعاليات لم تقتصر على شارع العرب فقط أو في أماكن تجمعاتهم كالمقاهي والبارات، بل استطاعوا في غضون مدة قصيرة أن يقدموا أنفسهم على نحو مختلف عن ذلك الذي تتناوله عادةً وسائل الإعلام حول اللاجئين.

تلك المساحة التي لم تكن متوفرة في عواصم أخرى كأمستردام واستوكهولم وباريس، التي كانت يومًا ما حاضرة ثقافيًا كما هو حال برلين اليوم بالنسبة للسوريين وللكثير من الأجانب والمهاجرين على وجه الخصوص، فطبيعة المجتمع البرليني تسمح بالانخراط والتشارك وتقبل الآخر الغريب والمختلف. ما نتج عنه هذا التفاعل الثقافي الذي يشكل إضافة للمدينة يميزها عن باقي المدن الأوروبية.

عدد كبير من الموسيقيين والمسرحيين والكتاب السوريين متواجدون اليوم في برلين يقدمون فيها أعمالهم بأشكالها المتنوعة، يحظون بمساحة حرية افتقدوها في بلادهم. بالإضافة للدعم ووجود بنية ثقافية ضخمة في العاصمة برلين، كل هذا هيأ ولا يزال الشروط المناسبة للتفاعل الثقافي.

فالثقافة السورية التي أصبحت اليوم خارج سوريا، استضافت برلين جزءًا كبيرًا منها في ملتقى للإبداع العالمي في مجتمع منفتح.

طبيعة المجتمع البرليني تسمح بالانخراط والتشارك وتقبل الآخر الغريب والمختلف

اقرأ/ي أيضًا: السوريون وقصص الحنين.. سنرجع يومًا إلى حيّنا

الأعمال الموسيقية كان لها النصيب الكبير من خلال جملة المشاركات بدايةً بمهرجانات الموسيقى التقليدية ونهاية بأوركسترا الفرقة الفلهارمونية السورية، التي ضمت أكثر من خمسين موسيقيًا أتوا من عشرة بلدان مختلفة إلى برلين للمشاركة بسلسلة حفلات تركت أثرًا للمستمعين البرلينين، وغيرها من المهرجانات كان آخرها مهرجان مساحات للأمل، الذي أتاح المجال لتقديم ومناقشة الفن السوري في إطار نزوح عدد كبير من السوريين إلى أوروبا مؤخرًا، من خلال خلق فرصة لمقابلة العديد من الفنانين المتميزين من سوريا والمنطقة العربية وألمانيا.
وصدور مجلة "نظرة سورية"، التي تُعنى بتقديم صورة عن الثقافة السورية في المنفى، وتتوجه للمهتمين بالأدب والثقافة والفن، وغيرها من المجلات التي صدرت بالعربية أو بالإنجليزية بغاية التعريف بالتاريخ والثقافة السورية، ومساحات أخرى ثقافية تُعنى بالشأن السوري بعد الترحال والتهجير.

هذا إلى جانب الأمسيات الشعرية والأدبية وورشات العمل الاجتماعية والثقافية، التي تساهم بخلق تفاعل ثقافي اجتماعي خاص بين المدينة والسوريين. كل هذا يبدو صعب التحقق في مدينة أخرى لا تشبه برلين التي تعطي لكل نشاط يقام فيها طابعًا برلينيًا خاصًا، قوامه التجمع الحر وتقبل الآخر بكل ما في هذا المفهوم من رحابّة.

العاصمة الرؤوم هذا ما قد يخطر لك وأنت تشاهد التجمعات التي تنتج تفاعلًا سريعًا وحيويًا بين وافد جديد ومدينة عريقة. كل هذا يجعل منها عاصمة فعلية للسوريين تسمح بتجمعهم وتقبلهم وانخراطهم.

اقرأ/ي أيضًا:

الطريق إلى برلين

بعد هجوم برلين..ميركل تواجه لحظة الحساب